المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1782 [ 941 ] وعن أنس بن مالك ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بتمرة بالطريق ، فقال : ( لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها) .

رواه أحمد (3 \ 119)، والبخاري (2055)، ومسلم (1071)، وأبو داود (1651-1652) .


وقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد وجد تمرة في الطريق - : ( لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ) ; هذا منه - صلى الله عليه وسلم - ورع وتنزه . وإلا فالغالب تمر غير الصدقة ; لأنه الأصل ، وتمر الصدقة قليل ، والحكم للغالب في القواعد الشرعية .

وفيه دليل : على أن اللقطة اليسيرة التي لا تتعلق بها نفس فاقدها لا تحتاج إلى تعريف . وأنها تستباح من غير ذلك ; لأنه علل امتناعه من أكلها: هو خوفه أن تكون من الصدقة ، ثم إن دليل خطابه أنها لو سلمت من ذلك المانع لأكلها .

وهذه الأحاديث كلها مع قوله : ( إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ، ولا لآل محمد ) ; تدل على أن الصدقة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله محرمة . وهل يعم التحريم الواجبات وغيرها ، أو يخص الواجبة ؟ اختلف فيه : فذهب مالك وأبو حنيفة في أحد قوليه: إلى أن المحرم الواجبة فقط .

وحكى ابن القصار عن بعض أصحابنا : أن المحرم صدقة التطوع دون الفريضة ; لأنها لا منة فيها .

وقال أبو حنيفة أيضا : إنها كلها حلال لبني هاشم وغيرهم . وإنما كان ذلك محرما عليهم ; إذ كانوا يأخذون سهم ذي القربى ، فلما قطع عنهم حلت لهم ، ونحوه عن الأبهري من شيوخنا . وروي عن أبي يوسف : أنها حرام عليهم من غيرهم ، حلال لهم صدقة بعضهم على بعض .

قلت : والظاهر من هذه الأحاديث أنها محرمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله ، فرضها ونفلها ; تمسكا بالعمومات . ومن جهة المعنى: بأن الصدقة أوساخ [ ص: 125 ] الناس ، وبأن اليد العليا خير من اليد السفلى ، ولا يد أعلى من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أيدي آله . فقد أكرمهم الله ، وأعلى مقاديرهم ، وجعل أيديهم فوق كل يد . وسهم ذي القربى واجب إخراجه وإيصاله إليهم على كل من ولي شيئا من أمور المسلمين إلى يوم القيامة . فلو منعوا ولم يقدروا على إيصالهم إلى حقوقهم وجب سد خلاتهم ، والقيام بحاجاتهم على أهل القدرة من المسلمين لا على وجه الصدقة ، بل على جهة القيام بالحقوق الواجبة في الأموال ، ويكون حكمهم كحكم الحقوق المرتبة على بيت مال المسلمين ، فلا يوصل إليها لفكاك الأسارى ونفقة اللقطاء ، وسد خلات الضعفاء والفقراء إذا لم يوصل إلى أخذ ذلك من بيت المال .

واختلف في: من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال مالك وأكثر أصحابه : هم بنو هاشم خاصة ، ومثله عن أبي حنيفة ، واستثني آل أبي لهب . وقال الشافعي : هم بنو هاشم ، ويدخل فيهم بنو المطلب أخي هاشم دون سائر بني عبد مناف ; لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أنا وبنو المطلب شيء واحد) ، ولقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم مع بني هاشم سهم ذي القربى دون غيرهم . ونحا إلى هذا بعض شيوخنا المالكية . وقال أصبغ : هم عشيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الأقربون الذين أمر بإنذارهم : آل قصي ، قال : وقيل : قريش كلها .

قلت : وفي " الأم " : أن زيد بن أرقم سئل عن أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من هم ؟ فقال : أهل بيته من حرم الصدقة بعده ، قال : ومن هم ؟ قال : هم آل علي ، وآل [ ص: 126 ] عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، فقال : كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم .

وهذا يؤيد قول مالك . فإن هؤلاء كلهم بنو هاشم .

واختلف في مواليهم ، فمالك والشافعي يبيحانها لهم ، والكوفيون وكثير من أصحاب مالك يحرمونها عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية