المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1819 (2) باب

لأهل كل بلد رؤيتهم عند التباعد

وفي الهلال يرى كبيرا وشهران لا ينقصان

والنهي عن أن يتقدم رمضان بصوم

[ 955 ] عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام ، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان ، وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن العباس ثم ذكر الهلال وقال: متى رأيتم الهلال ؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة ، فقال: أرأيته ؟ قلت: نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين ، أو نراه فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال: لا ، هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . شك في نكتفي أو تكتفي.

رواه مسلم (1087)، وأبو داود (2832)، والترمذي (693)، والنسائي (4 \ 131) .


(2) ومن باب: لأهل كل بلد رؤيتهم عند التباعد

قوله : ( واستهل علي هلال رمضان ) ; مبنيا لما لم يسم فاعله . أصل استهل : من الإهلال الذي هو رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم غلب عرف الاستعمال [ ص: 142 ] فصار يفهم منه رؤية الهلال ، ومنه سمي الهلال لما كان يهل عنده .

وقول ابن عباس : ( فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ) ، ثم قال في آخره : ( هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ; كلمة تصريح برفع ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبأمره به . فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز أو ما قارب ذلك ، فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره ، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم ، ما لم يحمل الناس على ذلك فلا تجوز مخالفته ; إذ المسألة اجتهادية مختلف فيها ، ولا يبقى مع حكم الإمام اجتهاد ، ولا تحل مخالفته . ألا ترى أن معاوية أمير المؤمنين قد صام بالرؤية وصام الناس بها بالشام ، ثم لم يلتفت ابن عباس إلى ذلك ، بل بقي على حكم رؤيته هو . ووجه هذا يعرف من علم الهيئة والتعديل ، وذلك أنه يتبين فيها : أن ارتفاعات الأقاليم مختلفة ، فتختلف مطالع الأهلة ومغاربها ، فيطلع الهلال ، ويغرب على قوم قبل طلوعه وغروبه على آخرين . وعلى هذا : فلا يظهر تأثير هذا إلا فيما بعد جدا ، لا فيما قرب ، والله [ ص: 143 ] تعالى أعلم .

وإلى ذلك صار ابن عباس ، وسالم ، والقاسم ، وعكرمة . وبه قال إسحاق . وإليه أشار الترمذي ، حيث بوب : لأهل كل بلد رؤيتهم . وحكى أبو عمر بن عبد البر : الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان ، قال : ولكل بلد رؤيتهم ، إلا ما كان كالمصر الكبير ، وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين .

قلت : وهذا الإجماع الذي حكاه أبو عمر يدل على أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنما هو فيما تقارب من البلاد . ولم يكن في حكم القطر الواحد . ونحن نذكره إن شاء الله تعالى .

قال ابن المنذر : اختلف في الهلال يراه أهل بلد ولا يراه غيرهم : فقال قوم : لأهل كل بلد رؤيتهم ، وذكر من تقدم ذكر أكثرهم .

وقال آخرون : إذا ثبت أن أهل بلد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا . وهو قول الليث ، والشافعي ، وأحمد . ولا أعلم إلا قول المزني والكوفي .

وقال شيوخنا : إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ، ثم نقل إلى غيرهم بشهادة شاهدين لزمهم الصوم . وقال عبد الملك : أما ثبوته بالشهادة فلا يلزم فيها الصوم إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة ، إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم الصيام . وعلل هذا : بأن البلاد كلها كبلد واحد ; إذ حكمه نافذ في الجميع .

قلت : هكذا وقع نقل المشايخ لهذه المسألة ، ولم يفرقوا بين البعيد والقريب من الأقاليم . والصواب: الفرق ; بدليل الإجماع الذي حكاه أبو عمر ، فيحمل [ ص: 144 ] إطلاق المشايخ على البلاد المتقاربة ، والله تعالى أعلم .

وفي قوله : (صوموا لرؤيته) ; دليل على أن يوم الشك لا يلزم صومه . وهو مذهب الجمهور خلافا لأحمد بن حنبل ، فإنه أوجب صومه احتياطا ، فإن صح أنه من رمضان أجزأه . ونحوه قال الكوفيون ; إلا أنهم لم يوجبوا صومه . والجمهور على أنه لا يصومه عن رمضان ، ولا يجزئه إن صامه ، وكان بعض الصحابة يأمر بالفصل ما بين رمضان وشعبان بفطر يوم أو يومين . وكره محمد بن مسلمة تحري فطره ، كما كره تحري صومه .

قلت : والأصل : أنه محكوم له بأنه من شعبان حتى يدل الدليل على أنه من رمضان . والأدلة الناقلة عن حكم شعبان : الرؤية ، أو الشهادة ، أو إكمال عدة شعبان بثلاثين ، ولم يوجد واحد منها في يوم الشك ، غير أنه يستحب أن يمسك فيه من غير صوم ليسلم من الأكل في زمان رمضان . ثم قوله : (صوموا لرؤيته) ; يقتضي وجوب الصوم حين الرؤية متى وجدت ، لكن منع الإجماع من الصوم حينئذ ; فكان محمولا على اليوم المستقبل ; لأنه هلال ليلة ذلك اليوم ، ولا فرق بين رؤيته قبل الزوال ، أو بعده ، وهو المشهور من مذاهب العلماء ، ومن مذهب مالك . وقال ابن وهب ، وابن حبيب ، وعيسى بن دينار : إذا رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية ، ويفطرون ساعة رؤيته إن كان هلال شوال . وقال بعض أهل الظاهر : أما في الصوم فيجعل للماضية ، وأما في الفطر فيجعل للمستقبلة ، وهو أخذ بالاحتياط منهم . والحديث المتقدم حجة عليهم على ما قررناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية