المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1824 (3) باب

في قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود

وقوله عليه الصلاة والسلام : " إن بلالا ينادي بليل " .

[ 959 ] عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال له عدي: يا رسول الله! إني جعلت تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود ، أعرف الليل من النهار ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن وسادك لعريض ، إنما هو سواد الليل وبياض النهار " .

رواه أحمد (4 \ 377)، والبخاري (1916)، ومسلم (1090)، والترمذي (2970) .


(3) ومن باب: قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود

حديث عدي هذا يقتضي : أن قوله تعالى : من الفجر نزل متصلا بقوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود وأن عدي بن حاتم حمل الخيط على حقيقته ، وفهم من قوله : من الفجر من أجل الفجر . ففعل ما فعل بالعقال الأبيض والأسود . وهذا بخلاف حديث سهل بن سعد ، فإن فيه : أن الله لم ينزل من الفجر إلا منفصلا عن قوله : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولما وقع لهم الإشكال حينئذ أنزل الله تعالى : [ ص: 148 ] من الفجر رافعا لذلك الإشكال ، وكأن الحديثين واقعتان في وقتين .

ويصح الجمع بأن يكون حديث عدي متأخرا عن حديث سهل ، وأن عديا لم يسمع ما جرى في حديث سهل ، وإنما سمع الآية مجردة ، ففهمها على ما قررناه ، فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن الخيط الأبيض كناية عن بياض الفجر ، والخيط الأسود كناية عن سواد الليل ، وأن معنى ذلك أن يفصل أحدهما عن الآخر . وعلى هذا فيكون من الفجر متعلقا في يتبين

وعلى مقتضى حديث سهل يكون في موضع الحال متعلقا بمحذوف ، وهكذا هو معنى جوابه في حديث سهل ، ويحتمل أن يكون الحديثان قضية واحدة . وذكر بعض الرواة : من الفجر متصلا بما قبله ، كما ثبت في القرآن وإن كان قد نزل متفرقا ; كما بينه حديث سهل ، والله تعالى أعلم .

وقوله : ( إني جعلت تحت وسادتي عقالين ) ; إنما جعلهما تحت وساده لاعتنائه بهما ، ولينظر إليهما وهو على فراشه من غير كلفة قيام ولا طلب ، فكان يرفع الوساد إذا أراد أن ينظر إليهما . والعقال : الخيط . سمي بذلك : لأنه يعقل به ; أي : يربط به ويحبس .

وقوله : ( إن وسادك لعريض ) ; حمله بعض الناس على الذم له على ذلك الفهم ، وكأنه فهم منه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - [نسبه إلى الجهل والجفاء وعدم الفقه . وربما عضدوا هذا بما روي : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له : (إنك لعريض القفا) ، وليس الأمر [ ص: 149 ] كذلك ; فإنه حمل اللفظ على حقيقته اللسانية ; إذ هي الأصل ; إذ لم يتبين له دليل التجوز . ومن تمسك بهذا الطريق لم يستحق ذما ، ولا ينسب إلى جهل ، وإنما عنى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم : أن وسادك إن غطى الخيطين اللذين أراد الله ، اللذين هما الليل والنهار ، فهو إذا وساد عريض واسع ; إذ قد شملهما وعلاهما ، ألا تراه قد قال على إثر ذلك : ( إنما هو سواد الليل وبياض النهار ) ; فكأنه قال : فكيف يدخلان تحت وساد ؟ ! وإلى هذا يرجع قوله : (إنك لعريض القفا) ; لأن هذا الوساد الذي قد غطى الليل والنهار بعرضه لا يرقد عليه ، ولا يتوسده إلا قفا عريض ، حتى يناسب عرضه عرضه ، وهذا عندي أشبه ما قيل فيه وأليق . [ويدل أيضا عليه : ما زاده البخاري قال : (إن وسادك إذا لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك) ، وقد أكثر الناس فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية