المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1829 [ 961 ] وعن ابن عمر ، قال: كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤذنان: بلال ، وابن أم مكتوم الأعمى ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا .

رواه أحمد (2 \ 107)، ومسلم (1092) (38)، والترمذي (203)، والنسائي (2 \ 10) .


وقوله : ( إن بلالا ينادي بليل ) ; هذا النداء هو أذان الفجر عند الجمهور . وحكمته عندهم : الهبوب من النوم ، والتأهب لصلاة الصبح . واختصت الصبح بذلك ; لأن الأفضل فيها إيقاعها في أول وقتها مطلقا ، فيلزم من المحافظة على إيقاعها في أول وقتها التأهب لها قبل وقتها ، وقبلها نوم الليل المستصحب ، فاقتضى مجموع ذلك أن ينصب من يوقظ الناس قبل وقتها ، فكان ذلك بالأذان .

وذهب أبو حنيفة والثوري : إلى أن هذا الأذان إنما فائدته ما نص عليه في الحديث الآخر : ( ليوقظ نائمكم ، ويرجع قائمكم ) ، والإعلام بوقت السحور لا يكتفى به للفجر ، بل لا بد من أذان آخر إذا طلع الفجر ، كما كان يؤذن ابن أم مكتوم . ومتمسكهما من حديث بلال وابن أم مكتوم واضح ، غير أن العمل المنقول بالمدينة على تقديم أذان الفجر قبله .

ثم اختلف الجمهور في الوقت الذي يؤذن فيه للفجر : فأكثرهم قال : السدس الأخير من الليل . وقيل : النصف . وقيل : بعد خروج وقت العشاء الآخرة . وهذه الأقاويل الثلاثة في مذهبنا .

وقوله : ( ولم يكن بينهما إلا أن يرقى هذا وينزل هذا ) . وفي " البخاري " من حديث عائشة -رضي الله عنها- ، عن ابن أم مكتوم : فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ، وقال فيه : قال القاسم : ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا .

وفي " الموطأ " : وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى ، لا يؤذن حتى يقال له : أصبحت ، أصبحت . ومثله في " البخاري " أيضا .

[ ص: 151 ] قلت : وقد أشكل قول القاسم مع مساق حديث بلال وابن أم مكتوم ; وذلك : أن حديث بلال يقتضي : أن بين وقت أذانه وطلوع الفجر زمانا طويلا يتسع لصلاة الليل وللسحور ، وأذان ابن أم مكتوم يقتضي : أنه كان لا يؤذن حتى يطلع الفجر ، ثم قال القاسم : لم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا ، وينزل ذا . وهذا الوقت لا يتسع لشيء من الصلاة ، ولا من السحور ، فتناقضا . وقد انفصل عنه من وجهين :

أحدهما : أن هذا كان من بلال في بعض الأوقات ، لا في غالبها ، بل كان غالب أحواله : أن يوسع بين أذانه وبين طلوع الفجر . وقد روي : أنه أذن عند طلوع الفجر .

وثانيهما - وهو الأشبه - : أن بلالا كان يؤذن قبل طلوع الفجر ، فيجلس في موضع أذانه يذكر الله ويدعو حتى ينظر إلى تباشير الفجر ومقدماته ، فينزل ، فيعلم ابن أم مكتوم بالفجر ، ولعله هو الذي كان يقول له : أصبحت ، أصبحت ; أي : قاربت الصباح . وعند ذلك يرقى ابن أم مكتوم ، فيؤذن ، والله تعالى أعلم .

فقول القاسم في رواية البخاري : (بين أذانهما) ; معناه : بينهما ، كما قال في حديث ابن عمر : (ولم يكن بينهما) ; أي : لم يكن بين نزول بلال وصعود ابن أم مكتوم طويل زمن ، بل بنفس ما ينزل أحدهما يصعد الآخر من غير تراخ ، والله تعالى أعلم .

وقوله : ( إن بلالا ينادي بليل ) ; دليل على أن ما بعد الفجر لا يقال عليه ليل ، بل هو أول اليوم المأمور بصومه .

وقوله : ( حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) ; أي : حتى يشرع في الأذان ، وهذا [ ص: 152 ] ظاهره . ويحتمل : حتى يفرغ من الأذان . ويؤيد هذا الاحتمال : ما ذكره أبو داود من حديث أبي هريرة الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه) . وهذا هو أذان ابن أم مكتوم ، فإنه مشعر بأن هذا إنما يفعل عند ضيق الوقت ، ولا يصح أن يرد إلى حديث ابن عمر ; لأن ذلك صرح فيه بالتراخي والتوسعة تقتضي أكثر من هذا الوقت ، وعلى هذا : فيكون قوله في أذان ابن أم مكتوم : (حتى يطلع الفجر) ; أي : يقارب . وكذلك (أصبحت) ; أي : قاربت الدخول في الصباح . وهذا التأويل على ما قررناه في حد الصوم : من أن الواجب إمساك جميع أجزاء اليوم ، وحالة : طلوع الفجر من اليوم ، فلا بد من إمساكها ، ويلزم من إمساكها : إمساك جزء من الليل حتى يأمن من الأكل فيما هو جزء من اليوم ، وعلى هذا فأول التبين هو المحرم بنفسه ، لكن اختلف في هذا التبين بالنسبة إلى ماذا يكون : فذهب الجمهور وفقهاء الأمصار والأعصار : إلى أنه أول تبين الفجر في الأفق الذاهب فيه عرضا . وروي عن عثمان ، وحذيفة ، وابن عباس ، وطلق بن علي ، وعطاء بن أبي رباح ، والأعمش ، وغيرهم : أن الإمساك يجب لتبين الفجر بالطرق وعلى رؤوس الجبال .

وقد قيل لحذيفة : إني حين تسحرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع .

وروي عن علي رضي الله عنه : أنه صلى الصبح ، ثم قال : الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود .

قال الطبري : ومما قادهم إلى هذا القول: أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم: من طلوع الشمس ، وآخره غروبها ، [فأوله [ ص: 153 ] طلوعها] ، وحكى النقاش عن الخليل : أن النهار من طلوع الفجر . ويدل على ذلك قوله تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار

قلت : وما قاله الطبري ليس بصحيح ; لأن الله تعالى : إنما أمر بصوم ما يقال عليه يوم ، لا بما يقال عليه نهار ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى : أياما معدودات

التالي السابق


الخدمات العلمية