المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
159 [ 86 ] وعن ثابت بن الضحاك ; أنه بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال - وفي رواية : متعمدا - ومن قتل نفسه بشيء ، عذب به يوم القيامة ، وليس على رجل نذر في شيء لا يملكه .

وفي رواية : ولعن المؤمن كقتله .

وفيها : ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها ، لم يزده الله إلا قلة ، ومن حلف على يمين صبر فاجرة .

وفي أخرى : ومن ذبح نفسه بشيء ، ذبح به يوم القيامة .

رواه أحمد ( 4 \ 33 - 34 ) ، والبخاري ( 6652 ) ، ومسلم ( 110 ) ، وأبو داود ( 3257 ) ، والترمذي ( 2638 ) ، والنسائي ( 7 \ 5- 6 ) ، وابن ماجه ( 2098 ) .


و (قوله : " إنه بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة ") وكانت سمرة ، وهذه بيعة الرضوان التي قال الله فيها : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [ الفتح : 18 ] . وكانت قبل فتح مكة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة . وكان سببها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد إلى مكة معتمرا ، فلما بلغ الحديبية - وهي [ ص: 312 ] موضع فيه ماء ، بينه وبين مكة نحو من أميال - صدته قريش عن الدخول إلى البيت ، فوجه لهم عثمان رسولا ، فتحدث أن قريشا قتلوه ، فتهيأ النبي - صلى الله عليه وسلم - لحربهم ، فبايع أصحابه تلك البيعة على الموت ، أو على ألا يفروا ; كما سيأتي ، إن شاء الله تعالى .

و (قوله : " من حلف على يمين بملة غير الإسلام ") اليمين هنا : يعني به المحلوف عليه ; بدليل ذكره المحلوف به ، وهو بملة غير الإسلام . ويجوز أن يقال : إن " على " صلة ، وينتصب يمين على أنه مصدر ملاق في المعنى لا في اللفظ .

و (قوله : " كاذبا متعمدا ") يحتمل أن يريد به النبي - صلى الله عليه وسلم - : من كان معتقدا لتعظيم تلك الملة المغايرة لملة الإسلام ; وحينئذ يكون كافرا حقيقة ، فيبقى اللفظ على ظاهره . وكاذبا : منصوب على الحال ; أي : في حال تعظيم تلك الملة التي حلف بها ، فتكون هذه الحال من الأحوال اللازمة ; كقوله تعالى : وهو الحق مصدقا [ البقرة : 91 ] ; لأن من عظم ملة غير الإسلام ، كان كاذبا في تعظيمه دائما في كل حال وكل وقت ، لا ينتقل عن ذلك .

ولا يصلح أن يقال : إنه يعني بكونه كاذبا في المحلوف عليه ; لأنه يستوي في ذمه كونه صادقا أو كاذبا إذا حلف بملة غير الإسلام ; لأنه إنما ذمه الشرع من حيث إنه حلف بتلك الملة الباطلة ، معظما لها على نحو ما تعظم به ملة الإسلام الحق ; فلا فرق بين أن يكون صادقا أو كاذبا في المحلوف عليه ، والله تعالى أعلم .

وأما إن كان الحالف بذلك غير معتقد لذلك : فهو آثم مرتكب كبيرة ; إذ قد نسبه في قوله لمن يعظم تلك الملة ويعتقدها ، فغلظ عليه الوعيد ; بأن صيره كواحد منهم ، مبالغة في الردع والزجر ; كما قال تعالى : ومن يتولهم منكم فإنه منهم [ المائدة : 51 ] . وهل تجب عليه كفارة أم لا ؟ اختلف العلماء في ذلك : فروي عن [ ص: 313 ] ابن المبارك مما ورد مثل هذا : أن ذلك على طريقة التغليظ ، ولا كفارة على من حلف بذلك وإن كان آثما ; وعليه الجمهور ، وهو الصحيح ; لقوله - عليه الصلاة والسلام - : من حلف باللات ، فليقل : لا إله إلا الله ، ولم يوجب عليه أكثر من ذلك ، ولو كانت الكفارة واجبة ، لبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ ; لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . وقد ذهب بعض العراقيين إلى وجوب الكفارة عليه ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .

و (قوله : " ليس على رجل نذر في شيء لا يملكه ") هذا صحيح فيما إذا باشر النذر ملك الغير ; كما لو قال : لله علي عتق عبد فلان ، أو هدي بدنة فلان ، ولم يعلق شيئا من ذلك على ملكه له ، فلا خلاف بين العلماء أن ذلك لا يلزمه منه شيء ; غير أنه حكي عن ابن أبي ليلى في العتق : أنه إذا كان موسرا عتق عليه ، ثم رجع عنه .

وإنما اختلفوا فيما إذا علق العتق أو الهدي أو الصدقة على الملك ; مثل أن يقول : " إن ملكت عبد فلان ، فهو حر " ، فلم يلزمه الشافعي شيئا من ذلك عم أو خص ; تمسكا بهذا الحديث . وألزمه أبو حنيفة : كل شيء من ذلك عم أو خص ; لأنه من باب العقود المأمور بالوفاء بها ، وكأنه رأى أن ذلك الحديث لا يتناول المعلق على الملك ; لأنه إنما يلزمه عند حصول الملك لا قبله . ووافق أبا حنيفة مالك فيما إذا خص ; تمسكا بمثل ما تمسك به أبو حنيفة ، وخالفه إذا عم ; رفعا للحرج الذي أدخله على نفسه ، ولمالك قول آخر مثل قول الشافعي .

التالي السابق


الخدمات العلمية