المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
163 (36) باب

لا يغتر بعمل عامل حتى ينظر بما يختم له

[ 88 ] عن سهل بن سعد الساعدي ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا ، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ، ومال الآخرون إلى عسكرهم ، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه ، فقالوا : ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما إنه من أهل النار ، فقال رجل من القوم : أنا صاحبه أبدا ، قال : فخرج معه ، كلما وقف وقف معه ، وإذا أسرع أسرع معه ، قال : فجرح الرجل جرحا شديدا ، فاستعجل الموت ، فوضع نصل سيفه بالأرض ، وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه ، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد أنك رسول الله ، قال : وما ذاك ؟ قال : الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار ، فأعظم الناس ذلك ، فقلت : أنا لكم به ، فخرجت في طلبه حتى جرح جرحا شديدا ، فاستعجل الموت ، فوضع نصل سيفه بالأرض ، وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل عليه فقتل نفسه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة - فيما يبدو للناس - وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار - فيما يبدو للناس - وهو من أهل الجنة .

رواه أحمد ( 4 \ 135 ) ، والبخاري ( 4202 ) ، ومسلم ( 112 ) .


[ ص: 317 ] (36) ومن باب : لا يغتر بعمل عامل حتى ينظر بما يختم عليه

(قوله : " لا يدع لهم شاذة ولا فاذة ") الشاذ : الخارج عن الجماعة ، والفاذ : المنفرد ، وأنث الكلمتين على جهة المبالغة ; كما قالوا : علامة ، ونسابة ; قال ابن الأعرابي : يقال : فلان لا يدع لهم شاذة ولا فاذة : إذا كان شجاعا لا يلقاه أحد . وفيه من الفقه : ما يدل على جواز الإغياء في الكلام والمبالغة فيه ، إذا احتيج إليه ، ولم يكن ذلك تعمقا ولا تشدقا .

و (قوله : " ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان ") كذا صحت روايتنا فيه رباعيا مهموزا ، ومعناه : ما أغنى ولا كفى . وفي الصحاح : أجزأني الشيء : كفاني ، وجزى عني هذا الأمر ، أي : قضى ; ومنه قوله : لا تجزي نفس عن نفس شيئا أي : لا تقضي ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - لأبي بردة : تجزي عنك ، ولا تجزي عن أحد بعدك ، قال : وبنو تميم يقولون : أجزأت عنك شاة ، بالهمز . وقال أبو عبيد : جزأت بالشيء وأجزأت ; أي : اكتفيت به ، وأنشد :

[ ص: 318 ]

فإن اللؤم في الأقوام عار وإن المرء يجزى بالكراع

وفلان ، قيل : هو قزمان . ونصل السيف : حديدته كلها ، وأنشدوا :


كالسيف سل نصله من غمده

. . . . . . . . . ويقال عليها : منصل ، والمراد بالنصل في هذا الحديث : طرف النصل الأسفل الذي يسمى : القبيعة ، والرئاس . وذبابه : طرفه الأعلى المحدد المهلل ، وظبتاه وغرباه : حداه ، وصدر السيف : من مقبضه إلى مضربه ، ومضربه : موقع الضرب منه ، وهو دون الذباب بشبر .

و (قوله : " فأعظم الناس ذلك ") أي : عظموه وكبر عليهم ; وإنما كان ذلك ; لأنهم نظروا إلى صورة الحال ، ولم يعرفوا الباطن ولا المآل ، فأعلم العليم الخبير البشير النذير بمغيب الأمر وعاقبته ، وكان ذلك من أدلة صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحة رسالته ، ففيه التنبيه على ترك الاعتماد على الأعمال ، والتعويل على فضل ذي العزة والجلال .

[ ص: 319 ] و (قوله : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ") دليل على أن ذلك الرجل لم يكن مخلصا في جهاده ، وقد صرح الرجل بذلك فيما يروى عنه أنه قال : إنما قاتلت عن أحساب قومي ، فيتناول هذا الخبر أهل الرياء . فأما حديث أبي هريرة الذي قال فيه : إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ، ثم يختم له بعمل أهل النار فيدخلها : فإنما يتناول من كان مخلصا في أعماله ، قائما بها على شروطها ، لكن سبقت عليه سابقة القدر ، فبدل به عند خاتمته ; كما يأتي بحقيقته في كتاب القدر ، إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية