المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1870 (9) باب

كفارة من أفطر متعمدا في رمضان

[ 979 ] عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: هلكت يا رسول الله! قال: ( وما أهلكك) قال: وقعت على امرأتي في رمضان قال: (هل تجد ما تعتق رقبة ؟) قال: لا قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال: لا قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا ؟ قال: لا . . . . . . . . قال: ثم جلس فأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر ، فقال: تصدق بهذا قال: على أفقر منا ؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا ، فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه ، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك .

رواه أحمد (2 \ 281)، والبخاري (2600)، ومسلم (1111) (81)، وأبو داود (2891) .


(9) ومن باب: كفارة من أفطر متعمدا في رمضان

(قول المجامع في رمضان : هلكت! احترقت!) ; استدل به الجمهور على أنه كان متعمدا ، وقصروا الكفارة على المتعمد دون الناسي ، وهو مشهور قول مالك وأصحابه . وذهب أحمد ، وبعض أهل الظاهر ، وعبد الملك ، وابن حبيب : إلى إيجابها على الناسي . وروي ذلك عن عطاء ومالك متمسكين بترك استفسار النبي - صلى الله عليه وسلم - السائل ، وإطلاق الفتيا مع هذا الاحتمال . وهذا كما قاله الشافعي في الأصول : ترك الاستفصال مع الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال . وهذا ضعيف ; لأنه يمكن أن يقال : إنه ترك استفصاله لأنه قد تبين حاله ، وهو : أنه كان عامدا ، كما يدل عليه ظاهر قوله : (هلكت ! واحترقت) .

[ ص: 170 ] وقوله : ( هل تجد ما تعتق رقبة ) ، رقبة : نصب على البدل من (ما) الموصولة ، وهي مفعولة بتجد . وإطلاق الرقبة يقتضي جواز الكافرة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وجواز المعيبة ، وهو مذهب داود ، والجمهور على خلافهما ; فإنهم شرطوا في إجزاء الرقبة بالإيمان ، بدليل تقييدها به في كفارة القتل ، وهي مسألة حمل المطلق على المقيد ، المعروفة في الأصول ، وبدليل : أن مقصود الشرع الأول بالعتق تخليص الرقاب من الرق ; ليتفرغوا إلى عبادة الله ، ولنصر المسلمين . وهذا المعنى مفقود في حق الكافر ، وقد دل على صحة هذا المعنى قوله في حديث السوداء : (أعتقها فإنها مؤمنة) .

وأما العيب : فنقص في المعنى وفي القيمة ، فلا يجوز له ; لأنه في معنى عتق الجزء كالثلث ، والربع . وهو ممنوع بالاتفاق .

وقوله : ( فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ ) تستطيع : تقوى وتقدر . والتتابع : التوالي . وهو حجة للجمهور في اشتراط التتابع في الكفارة على ابن أبي ليلى ; إذ لم يشترطه .

وقوله : ( فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا ) ; حجة للجمهور في اشتراط عدد الستين على الحسن ; إذ قال : يطعم أربعين . وعلى أبي حنيفة ; إذ يقول بجواز إعطاء طعام ستين مسكينا لمسكين واحد . وهو أصله في هذا الباب .

[ ص: 171 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي : ( اجلس ) ; انتظار منه لوجه يتخلص به مما حصل فيه ، أو ليوحى إليه في ذلك .

وقوله : ( فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر ) ; العرق ، بفتح الراء لا غير ، وسمي بذلك لأنه جمع عرقة ، وهي الظفيرة من الخوص ، وهو الزنبيل ، بكسر الزاي على رواية الطبري ، وبفتح الزاي لغيره ، وهما صحيحان . وسمي بذلك لأنه يحمل فيه الزبل ، ذكره ابن دريد . وهذا العرق تقديره عندهم : خمسة عشر صاعا ، وهو مفسر في الحديث ، وقد تقدم : أن الصاع أربعة أمداد . فيكون مبلغ أمداد العرق ستين مدا ، ولهذا قال الجمهور : إن مقدار ما يدفع لكل مسكين من الستين مد .

وفيه حجة للجمهور على أبي حنيفة ، والثوري ; إذ قالا : لا يجزئ أقل من نصف صاع لكل مسكين .

وقوله : ( تصدق بهذا ) ; يلزم منه أن يكون قد ملكه إياه ; ليتصدق به عن كفارته ، ويكون هذا كقول القائل : أعتقت عبدي عن فلان ، فإنه يتضمن سبقية الملك عند قوم . وأباه أصحابنا ، مع الاتفاق على أن الولاء للمعتق عنه ، وأن الكفارة تسقط بذلك .

وقوله : ( على أفقر منا ؟) هو محذوف همزة الاستفهام . تقديره : أعلى أفقر منا ؟ والمجرور متعلق بمحذوف تقديره : أنتصدق به على أحد أفقر منا ؟ وقد جاء في طريق أخرى : بحذف على ، والرواية فيه حينئذ بالنصب على إضمار الفعل : أتجد أفقر منا ؟ وقد يجوز رفعه على خبر مبتدأ ; أي : أأحد أفقر منا ؟ واللابتان : حرتا المدينة ، وقد تقدم .

وضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجب من حاله ، وسرعة [ ص: 172 ] قسمه ، وإغيائه في ذلك .

والأنياب : جمع ناب ، وهي الأسنان الملاصقة للثنايا ، وهي : أربعة .

وقوله: ( اذهب فأطعمه أهلك ) ; تخيل قوم من هذا الكلام سقوط الكفارة عن هذا الرجل . فقالوا : هو خاص به . وليس فيه ما يدل على ذلك . بل نقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بين له ما يترتب على جنايته من الكفارة لزم الحكم ، وتقرر في الذمة ، ثم لما تبين من حال هذا : أنه عاجز عن الكفارة سقط عنه القيام بما لا يقدر عليه في تلك الحال ، وبقي الحكم في الذمة على ما رتبه أولا ، فبقيت الكفارة عليه إلى أن يستطيع شيئا من خصالها . وهذا مذهب الجمهور ، وأئمة الفتوى . وقد ذهب الأوزاعي ، وأحمد : إلى أن حكم من لم يجد الكفارة من سائر الناس سقوطها عنه . ولم يتعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث لقضاء ذلك اليوم ، ولذلك قال بسقوط القضاء عنه طائفة من أهل العلم . وأنه ليس عليه إلا الكفارة .

والجمهور على لزوم القضاء مع الكفارة ; إذ الصوم المطلوب منه لم يفعله ، فهو باق عليه ، كالصلوات وغيرها إذا لم تفعل بشروطها .

ويتم النظر في هذا الحديث برسم مسائل اختلف فيها :

الأولى : إن هذه الكفارة هل هي على الجاني وحده ؟ وهذا كما هو مذهب الجمهور . أو عنه وعن موطوءته ؟ كما صار إليه الشافعي وأهل الظاهر . وليس في الحديث ما يدل على ذلك ، لكن الحديث إنما تعرض للرجل ، وسكت عن المرأة ، فيؤخذ حكمها من دليل آخر . ولعله إنما سكت عنها; لأنها كانت غير صائمة ; لأنها طهرت من حيضتها في أضعاف اليوم ، أو كتابية .

وعلى الجملة : فحالها مجهول ، ولا سبيل إلى التحكم بأنها كانت مكرهة ، أو مختارة أو غير ذلك .

[ ص: 173 ] ومشهور مذهب مالك في المكرهة : أن مكرهها يكفر عنها ; لأنه هتك صومين بالنسبة إليها وإليه . فكأنه هتك يومين . قال سحنون : لا شيء عليه لها ولا عليها . وبه قال أبو ثور ، وابن المنذر ، ولم يختلف المذهب في أن عليها القضاء .

المسألة الثانية : إن قوله : ( هل تجد ؟) وبعده : ( فهل تستطيع ؟) وبعده : ( فهل تجد ما تطعم ؟) ظاهر هذا : الترتيب في هذه الخصال . بدليل عطف الجمل بالفاء المرتبة المعقبة . وإليه ذهب الشافعي ، والكوفيون ، وابن حبيب من أصحابنا . وذهب مالك وأصحابه : إلى التخيير في ذلك ، إلا أنه استحب الإطعام لشدة الحاجة إليه ، وخصوصا بالحجاز . واستدل أصحابنا لمذهبهم بحديث أبي هريرة الآتي بعد هذا ، وهو : أنه قال : أفطر رجل في رمضان فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتق رقبة ، أو يصوم شهرين ، أو يطعم ستين مسكينا . فخيره بـ (أو) التي هي موضوعة للتخيير .

المسألة الثالثة : هذه الكفارة ، هل هي خاصة بمن أفطر بالجماع ؟ وهو مذهب الشافعي ، وأحمد ، وجماعة من السلف ، أو هل يلحق بذلك كل هاتك لصوم نهار رمضان بأي وجه كان من أكل ، أو شرب ، أو غيره ؟ وهو مذهب مالك وجماعة . واستدل أصحابنا بحديث أبي هريرة الآتي ، وبالنظر إلى المعنى . وتحقيقه في الفروع ، وبسط ذلك في الفقه .

المسألة الرابعة : ذهب جمهورهم : إلى أن الكفارة ثلاثة أنواع ، كما جاء في الحديث . وذهب الحسن وعطاء : إلى أن المكفر إن لم يجد رقبة أهدى بدنة إلى مكة . قال عطاء : أو بقرة . وتمسكوا بما رواه مالك في " الموطأ " من مرسل سعيد بن المسيب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : (هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟) قال : لا . قال : (فهل تستطيع أن تهدي بدنة ؟) قال : لا . والصحيح: المسند من الأحاديث ، وليس [ ص: 174 ] فيه شيء من ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية