المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1876 [ 983 ] وعنه قال: سافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء فيه شراب فشربه نهارا ليراه الناس ، ثم أفطر حتى دخل مكة ، قال ابن عباس: فصام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفطر ، فمن شاء صام ، ومن شاء أفطر .

رواه أحمد (1 \ 259)، والبخاري (4279)، ومسلم (1113) (88)، وأبو داود (2404)، والنسائي (4 \ 184)، وابن ماجه (1661) .


(10) ومن باب: جواز الصوم والفطر في السفر

( الكديد ) ما بينه وبين مكة اثنان وأربعون ميلا . و ( عسفان ) قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلا من مكة . وفي الحديث الآتي : (كراع الغميم) . والغميم - بفتح الغين - : واد أمام عسفان بثمانية أميال . و ( كراع ) : جبل أسود هناك يضاف إلى الغميم . والكراع لغة : هو كل أنف مال من جبل أو غيره .

وهذه الأحاديث المشتملة على ذكر هذه المواضع الثلاثة كلها ترجع إلى معنى واحد . وهي حكاية حاله - صلى الله عليه وسلم - عن سفر في قدومه إلى فتح مكة . وكان في رمضان في ستة عشر منه ، كما جاء في حديث أبي سعيد . وهذه المواضع متقاربة . ولذلك عبر كل واحد من الرواة بما حضر له من تلك المواضع لتقاربها واختلف فيحكم الفطر في السفر ; فالجمهور على أن المسافر إن صام في سفره أجزأه . وذهب بعض أهل الظاهر : [ ص: 176 ] إلى أنه لا يجزئه ، ولا ينعقد ، وعليه القضاء أبدا . وحكي عن ابن عمر : أنه قال : من صام في السفر قضى في الحضر . وحكي أنه مذهب عمر . ومتمسك هؤلاء : ظاهر قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ; أي : فعليه عدة ، أو فالواجب عدة . وتأوله الجمهور : بأن هناك محذوفا ، تقديره : فأفطر . واستدلوا على صحته بما يأتي بعد هذا من الأحاديث الآتية في هذا الباب . وكره أحمد بن حنبل الصوم في السفر ، ولم يأمر بالقضاء .

واختلف الجمهور في الأفضل : هل هو الصوم أو الفطر ؟ أو لا فضيلة لأحدهما على الآخر . وممن ذهب إلى الأول أنس بن مالك ، ومالك في المشهور عنه ، والشافعي ، على أن الفطر من باب الرخص ، وأن فعل الصوم مبادرة إلى تخليص الذمم ، ومسابقة إلى الخيرات ، وقد أمر الله بذلك في قوله : فاستبقوا الخيرات وإلى الثاني ذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وغيرهما . وعلى الثالث جل أهل المذهب ، وهو التخيير ، وعليه تدل الأحاديث المذكورة في هذا الباب .

ثم هل هذا في كل سفر : طاعة كان أو معصية ، طويلا كان أو قصيرا ؟ وقد تقدم ذكر الخلاف فيه في باب : قصر الصلاة في السفر .

وقوله : ( خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في رمضان ; فصام ، فلما بلغ الكديد أفطر ) ; هذا حجة على من يقول : إن الصوم لا ينعقد في السفر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صام من خروجه من المدينة إلى أن بلغ الكديد ، وصام الناس معه . وهو حجة لمن يقول : إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر ، وإن لم يكن له عذر ، وإليه ذهب مطرف ، وهو أحد قولي الشافعي . وعليه جماعة من أصحاب الحديث .

والجمهور على منع ذلك إلا لعذر ، متمسكين بأنه قد شرع في أخذ ما خير فيه ; فيلزمه المضي فيه ; إذ قد عينه بفعله ، وحملوا فطر النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجود العذر المسوغ من حصول الضعف بالصوم عن مقاومة العدو ، وعن القيام بوظائف [ ص: 177 ] الجهاد ، ولما حصل لهم من الجهل والمشقة بالصوم ، كما قال : فسقط الصوام ، وقد روى البزار من حديث أبي سعيد الخدري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ما هم فيه ، ووصل إلى الماء ، قال لهم : (اشربوا) ، فقالوا : لا نشرب حتى تشرب . قال : (إني لست مثلكم ، إني راكب وأنتم مشاة) ، فقالوا : لا نشرب حتى تشرب ، فشرب ، وشربوا .

وعلى مذهب المنع فلو أفطر من غير عذر فهل تلزمه الكفارة ، أو لا تلزمه ؟ ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث بين أن يفطر بجماع ، فتجب ، أو بغيره فلا تجب . وكذلك اختلف فيمن طرأ عليه السفر ، وقد بيت الصوم في الحضر . فالجمهور على أنه لا يجوز أن يفطر إلا مع العذر . فلو أفطر من غير عذر ففي الكفارة ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث بين المتأول ، فتسقط عنه ، وبين غيره ، فلا تسقط .

وقوله : ( وكان صحابته - صلى الله عليه وسلم - يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ) ; وهو قول الزهري كما فسره في الرواية الأخرى ونسبه إليه . ولذلك ذكره مسلم بعده . وظاهر [ ص: 178 ] كلام ابن شهاب : أن الذي استقر عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - إنما كان : الفطر في السفر ، وأن الصوم السابق منسوخ .

وهذا الظاهر ليس بصحيح بدليل الأحاديث الآتية بعد هذا ; فإنها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام بعد ذلك في السفر ، وأصحابه كذلك ، وجد فيه . ومن أدل ذلك قول أبي سعيد : ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك في السفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وما خرجه النسائي عن عائشة : أنها سافرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرته ، فقالت : يا رسول الله ! قصرت وأتممت ، وأفطرت وصمت . فقال : (أحسنت يا عائشة !) ، وما عابه علي .

ويمكن أن يحمل قول الزهري : على أنه أراد أن يخبر بقاعدتهم الكلية الأصولية في الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما تحققت فيه المعارضة ، لا في هذا الموضع ; فإنه لم يتحقق فيه المعارضة ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية