المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1977 (13) باب

فضل صيام يوم عرفة وترك صيامه لمن كان بعرفة

[ 992 ] عن أبي قتادة الأنصاري ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صومه ، قال: فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ، وبيعتنا بيعة .

زاد في رواية : نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، فجعل عمر يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه . قال: فسئل عن صيام الدهر ؟ فقال: لا صام ولا أفطر (أو ما صام وما أفطر) قال: فسئل عن صيام يومين وإفطار يومين قال: ومن يطيق ذلك ؟ ! قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين ؟ قال: ليت أن الله قوانا على ذلك ، قال: وسئل عن صيام يوم وإفطار يوم ؟ قال: ذلك صيام أخي داود ، قال: وسئل عن صوم يوم الإثنين ؟ قال: ذلك يوم ولدت فيه ، ويوم بعثت (أو أنزل علي فيه) قال: فقال:
صوم ثلاثة من كل شهر ، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر ، قال: وسئل عن صوم يوم عرفة فقال: يكفر السنة الماضية والباقية قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء . فقال: يكفر السنة الماضية .


رواه أحمد (5 \ 296 و 297 )، ومسلم (1162) (196 و 197 )، وأبو داود (2426)، والنسائي (4 \ 207) .


[ ص: 185 ] (13) ومن باب: فضل صيام يوم عرفة

قول أبي قتادة : ( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صومه فغضب ) ; غضبه عند هذا السؤال يحتمل أوجها :

أحدها : أنه فهم عن السائل: أنه إنما سأل عن صومه ليلتزمه ، وربما يعجز عنه ، فغضب لذلك ، ولم يجبه .

وثانيها : أنه فهم أن السائل إنما سأل ليعلم مقدار ذلك فيزيد عليه ، كما قد سأل نفر عن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقالوها ، وقالوا : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك .

فقال أحدهم : أما أنا: فأصوم ولا أفطر . وقال الآخر : أما أنا: فأصلي الليل ولا أنام . وقال الآخر : أما أنا : فلا أنكح النساء . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أما أنا فأصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأنكح النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .

وثالثها : لعله إنما غضب لما يؤدي إليه من إظهار عمل السر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (إن من شر الناس المجاهرين) ; قيل : ومن هم ؟ قال : (الرجل يعمل العمل بالليل ، فيقول : يا فلان ! عملت البارحة كذا . فيبيت يستره ربه ، ويصبح فيكشف ستر الله عنه) .

وقد ذكر في ذلك أوجه هذه أقربها ، والله تعالى أعلم .

[ ص: 186 ] وقول عمر : ( رضينا . . . .) إلخ ; يقتضي تسكين غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث : إنه يقتضي الطواعية الكلية ، والانقياد التام ، ويتضمن ذلك : مرنا بأمرك ننفذه على أي وجه ، وفي أي محل ، ومن حيث : التعوذ بالله وبرسوله ، وهو الالتجاء إليهما ، والاستجارة بهما من غضبهما .

وقد كان عمر - رضي الله عنه - جعل هذا الكلام هجيراه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما غضب ، فإنه قد روي : أنه قال له هذا الكلام مرارا في مواطن متعددة .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن صيام الأبد فقال - : ( لا صام ولا أفطر ) ; يحتمل أن يكون دعا عليه ، لا أنه أخبر عنه ، ويحتمل أن يكون خبرا عن أنه لم يأت بشيء . ووجه ذلك : أن من سرد الصوم صار له عادة ، ولم يجد له مشقة ، فيعود النهار في حقه كالليل في حق غيره ، فكأنه ما صام ; إذ لم يجد ما يجده الصائم ، ولا أفطر لصورة الصوم ، وتكون (لا) بمعنى (ما) ; كما قال تعالى : فلا صدق ولا صلى وحمل كثير من العلماء هذا على ما إذا صام الأيام المحرمة ، فأما لو أفطرها : فكرهه قوم ، وأجازه آخرون . وقال أبو الطاهر بن بشير : وهو مستحب . وهذا أبعدها .

وقوله - وقد سئل عن صوم يوم وإفطار يومين: (ليت أن الله قوانا على ذلك ) ; يشكل مع وصاله ، وقوله : ( إني أبيت أطعم وأسقى ) . ويرتفع الإشكال : بأن [ ص: 187 ] هذا كان منه - صلى الله عليه وسلم - في أوقات مختلفة : ففي وقت : يواصل الأيام بحكم القوة الإلهية . وفي آخر : يضعف ; فيقول هذا بحكم الطباع البشرية . ويمكن أن يقال : تمنى ذلك دائما ، بحيث لا يخل بحق من الحقوق التي يخل بها من أدام صومه : من القيام بحقوق الزوجات ، واستبقاء القوة على الجهاد ، وأعمال الطاعات ، والله تعالى أعلم .

وقوله في يوم الإثنين : ( فيه ولدت ، وفيه أنبئت ، وفيه أنزل علي ) . قلت : وفيه مات . وكل هذا دليل على فضل هذا اليوم مع ما قد ثبت : أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الخميس ، ويقول فيه وفي يوم الإثنين : (إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين ، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) .

وقوله : ( صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر ) ; هذا إنما كان لأن الحسنة بعشر أمثالها . فثلاث من كل شهر كالشهر بالتضعيف ، ورمضان بغير تضعيف شهر ، فيكمل دهر السنة . فإن اعتبر رمضان بتضعيفه كان بإزاء عشرة أشهر ، فإذا أضيفت ستة أيام شوال كان له صوم ستين بالتضعيف .

وعلى مقتضى مساق هذا الحديث ، وعلى ما تقرر من معناه : تستوي أيام الشهر كلها ، ولا فرق بين أن يصوم هذه الثلاثة أيام أول الشهر ، أو وسطه ، أو آخره . وكذلك قالت عائشة : لم يكن يبالي من أي أيام الشهر كان يصومها . غير أن [ ص: 188 ] النسائي روى هذا الحديث عن جرير ، وقال فيه : صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر ، (أيام البيض) صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة .

وهذا يقتضي تخصيص الثلاثة بأيام الليالي البيض ، وهذا - والله تعالى أعلم - لأن الليالي البيض ، وقت كمال القمر ، ووسط الشهر ، وخير الأمور أوساطها ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل : (هل صمت من سرة شعبان شيئا ؟) . يعني: وسطه وفي رواية أخرى : (من سرر) ، مكان (سرة) ، وسيأتي .

وقال ابن حبيب : تصام الثلاثة الأيام : أول يوم من الشهر ، والعاشر ، والعشرين . قال : وبلغني أن هذا صوم مالك .

وفي تسمية عرفة : بعرفة ، قولان :

أحدهما : أن جبريل كان يري إبراهيم المناسك ، فيقول : عرفت ، عرفت .

وثانيهما : أن آدم وحواء تعارفا هنالك .

وقوله في صيام يوم عرفة : ( يكفر السنة التي قبله ) ; يعني السنة التي هو [ ص: 189 ] فيها ; لأنه في أواخر السنة ، والتي بعدها : يعني التي تأتي متصلة بشهر يوم عرفة .

وعاشوراء : يكفر السنة التي بعده ; لأنه في أوائل السنة الآتية .

التالي السابق


الخدمات العلمية