المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1909 [ 996 ] وعن حميد بن عبد الرحمن ، أنه سمع معاوية خطبهم بالمدينة في قدمة قدمها يوم عاشوراء فقال: أين علماؤكم يا أهل المدينة ؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لهذا اليوم: هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم ، فمن أحب منكم أن يصوم فليصم ، ومن أحب أن يفطر فليفطر .

رواه أحمد (4 \ 95)، والبخاري (2003)، ومسلم (1129) .


[ ص: 190 ] (14) ومن باب: صيام عاشوراء

وزنه : فاعولاء ، والهمزة . فيه للتأنيث ، وهو معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم ، وهو في الأصل : صفة لليلة العاشرة ; لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم للعقد الأول . واليوم مضاف إليها ، فإذا قلت : يوم عاشوراء . فكأنك قلت : يوم الليلة العاشرة . إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية . فاستغنوا عن الموصوف ، فحذفوا الليلة ، وعلى هذا : فيوم عاشوراء هو العاشر ; قاله الخليل وغيره . وقيل : هو التاسع .

وسمي : عاشوراء على عادة العرب في الإظماء . وذلك أنهم : إذا وردوا الماء لتسعة سموه : عشرا ; وذلك أنهم : يحسبون في الإظماء يوم الورود ، فإذا أقامت الإبل في الرعي يومين ، ثم وردت في الثالث قالوا : وردت ربعا . وإذا وردت في الرابع قالوا : وردت خمسا ; لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الرعي وأول اليوم الذي ترد فيه بعده . وهذا فيه بعد ; إذ لا يمكن أن يعتبر في عدد ليالي العشر وأيامه ما يعتبر في الإظماء ، فتأمله .

وعلى القول الأول سعيد والحسن ومالك وجماعة من السلف . وذهب قوم : إلى أنه التاسع . وبه قال الشافعي متمسكا بما ذكر في الإظماء ، وبحديث ابن عباس الآتي إن شاء الله .

وذهب جماعة من السلف : إلى الجمع بين صيام التاسع والعاشر . وبه قال الشافعي في قوله الآخر ، وأحمد ، وإسحاق . وهو قول من أشكل عليه التعيين ، فجمع بين الأمرين احتياطا .

وقول عائشة -رضي الله عنها- : ( كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية ) ; يدل على أن صوم هذا اليوم كان عندهم معلوم المشروعية والقدر ، [ ص: 191 ] ولعلهم كانوا يستندون في صومه : إلى أنه من شريعة إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما ; فإنهم كانوا ينتسبون إليهما ، ويستندون في كثير من أحكام الحج وغيره إليهما .

وصوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم عليه ، كما وافقهم على أن حج معهم على ما كانوا يحجون: أعني : حجته الأولى التي حجها قبل هجرته ، وقبل فرض الحج ; إذ كل ذلك فعل خير .

ويمكن أن يقال : أذن الله تعالى له في صيامه ، فلما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه ، فسألهم عن الحامل لهم على صومه ؟ فقالوا ما ذكره ابن عباس : إنه يوم عظيم ، أنجى الله فيه موسى وقومه ، وغرق فرعون وقومه ، فصامه موسى شكرا ، فنحن نصومه . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (فنحن أحق وأولى بموسى منكم) ; فحينئذ صامه بالمدينة ، وأمر بصيامه . أي : أوجب صيامه ، وأكد أمره ; حتى كانوا يصومون الصغار ، فالتزمه - صلى الله عليه وسلم - وألزمه أصحابه إلى أن فرض شهر رمضان ، ونسخ وجوب صوم يوم عاشوراء ، فقال إذ ذاك : (إن الله لم يكتب عليكم صيام هذا اليوم) ، ثم خير في صومه وفطره ، وأبقى عليه الفضيلة بقوله : ( وأنا صائم ) ، كما جاء في حديث [ ص: 192 ] معاوية .

وعلى هذا : فلم يصم النبي - صلى الله عليه وسلم - عاشوراء اقتداء باليهود ; فإنه كان يصومه قبل قدومه عليهم ، وقبل علمه بحالهم ، لكن الذي حدث له عند ذلك إلزامه والتزامه استئلافا لليهود ، واستدراجا لهم ، كما كانت الحكمة في استقباله قبلتهم ، وكان هذا الوقت هو الوقت الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه .

وقول معاوية لأهل المدينة : ( أين علماؤكم ؟ ) إنما خص العلماء بالنداء ليلقنوا عنه ، وليصدقوه ; إذ قد كان علم ذلك عند كثير منهم ، وذلك لأنهم أعلم بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحواله من غيرهم . وسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود عن يوم [ ص: 193 ] عاشوراء إنما كان ليستكشف السبب الحامل لهم على الصوم ، فلما علم ذلك قال لهم كلمة حق تقتضي تأنيسهم واستجلابهم ، وهي : ( نحن أحق وأولى بموسى منكم ) ; ووجه هذه الأولوية : أنه علم من حال موسى وعظيم منزلته عند الله ، وصحة رسالته وشريعته ، ما لم يعلموه هم ، ولا أحد منهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية