المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1931 (17) باب

نسخ الفدية ، ومتى يقضى رمضان

[ 1011 ] عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها .

وفي رواية : حتى أنزلت هذه الآية : فمن شهد منكم الشهر فليصمه .

رواه البخاري (4506)، ومسلم (1145) (149 و 150 )، وأبو داود (2315)، والترمذي (798)، والنسائي (4 \ 190.


[ ص: 202 ] (17) ومن باب: نسخ الفدية

قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين اختلف في قراءتها ، وفي معناها ، فأما قراءتها : فالجمهور على : (يطيقونه) بكسر الطاء وسكون الياء ، وأصله : يطوقونه ، وكذلك قراءة حميد .

ومشهور قراءة ابن عباس : " يطوقونه " . وقد روي عنه : " يطيقونه " . وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار : " يطوقونه " .

فأما قراءة الجمهور فمعناها : يقدرون عليه . وعلى هذا تكون الآية منسوخة كما قال سلمة بن الأكوع ، وابن عمر ، ومعاذ بن جبل ، وعلقمة ، والنخعي ، والحسن ، والشعبي ، وابن شهاب .

وقال السدي : هم الذين كانوا يطيقونه وهم بحال الشباب ثم استحالوا بالشيخ فلا يستطيعون الصوم . وهي عنده محكمة ، وتلزم الشيوخ عنده الفدية . ونحوه عن ابن عباس ، وزاد : المريض الذي لا يقدر على الصوم ، وعضد هذا بقراءته المذكورة قبل .

قال القاضي أبو محمد بن عطية : الآية عند مالك ; إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من رمضان المتقدم ، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم ، فترك ، فعليه الفدية .

وحكى الطبري عن عكرمة : أنه كان يقرؤها : " وعلى الذين يطيقونه فأفطروا " .

[ ص: 203 ] وأما قراءة : " يطوقونه " ; فمعناه : يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم كالمريض والحامل ; فإنهما يقدران عليه ; لكن بمشقة تلحق رضيعها ، فذهب بعض الناس : إلى أنها محكمة لهؤلاء ، فإن صاموا أجزأهم ، وإن افتدوا فلهم ذلك ، وقاله ابن عباس فيما حكاه عنه البخاري ، وأبو داود ، ورأيا : أنها ليست بمنسوخة ; لكنها مثبتة للشيخ والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان أن يصوما ، وللحامل والمرضع .

و يطيقونه بالياء مكان الواو مشددة ، مبنيا للمفعول ، مثل : (يطوقونه) بالمعنى . فأما قراءة عائشة : فأصلها : (يتطوقونه) فأدغمت التاء في الطاء ، ومعناها : يتكلفون ذلك بأنفسهم مع المشقة ، ويرجع ذلك لما تقدم في المريض ومن ذكر معه .

فأما قوله تعالى : فدية طعام مسكين ففدية : مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف ; أي : فعليهم فدية ، أو خبر مبتدأ ; أي : فحكمهم فدية . وقراءة نافع وابن عامر : " ففدية طعام " بإضافة " فدية " إلى " طعام " وجمع " مساكين " . وقرأ هشام : " فدية طعام " ، بتنوين فدية ورفع طعام على أن الطعام بدل منها . وقرأ بقية السبعة كذلك ، إلا أنهم وحدوا مساكين وهي قراءة : حسنة ; لأنها بينت : أن الواجب في فطر يوم إطعام مسكين واحد ، فأما الجمع فلا يعرف من مساق الآية هل هم أعني : المساكين - بإزاء يوم واحد ، أو بإزاء أيام ؟ وإنما يعلم ذلك من دليل آخر .

[ ص: 204 ] ثم اختلفوا في مقدار هذا الطعام حيث يجب : فذهب مالك وجماعة من العلماء : إلى أنه مد لكل مسكين بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تقدم في الزكاة .

وقال أشهب : مد وثلث بمد أهل المدينة . وقال قوم : قوت يوم عشاء وسحور . وقال سفيان الثوري ، وأبو حنيفة : نصف صاع من قمح ، وصاع من تمر أو زبيب .

وقوله : فمن تطوع خيرا فهو خير له ; أي : من تطوع بزيادة على إطعام مسكين ، قاله ابن عباس وجماعة . وقال ابن شهاب : من أراد الإطعام مع الصوم . وقال مجاهد : من زاد في الإطعام على المد .

وخير الأول والثاني بمعنى : أخير ، وأفضل ، معناه : من تطوع بأكثر من ذلك فهو أفضل عند الله .

وقوله : وأن تصوموا خير لكم ; أي : الصوم خير . وكذلك قرأها أبي . ومعناه : أن الصوم أفضل وأولى من الفدية .

وقول سلمة بن الأكوع : إن ذلك نسخ بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه هذا مقبول من قول الصحابي ; لأنه أعلم بالمقال ، وأقعد بالحال ، كما إذا قال : أمر ونهى . ووجه النسخ في هذا واضح ; وهو : أن آية الفدية تقتضي التخيير بين الفدية والصوم مطلقا ، كما قال سلمة . وهذه الآية الأخرى جاءت جازمة بالصوم لمن شهد الشهر ، رافعة لذلك التخيير .

ومعنى : شهد الشهر ; أي : حضر فيه مقيما في المصر . هذا قول جمهور العلماء ، وعلى هذا يكون الشهر منصوبا على الظرف ، ويكون معناه عندهم : أن من دخل عليه الشهر وهو مسافر ، أو طرأ عليه فيه سفر ; لم يجب عليه صومه .

وروي عن علي ، وابن عباس ، وعبيدة السلماني : أن معنى من شهد : من حضر دخول الشهر ، وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه ، سافر بعد ذلك أو أقام ; وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في السفر .

قلت : وهذا القول يرده فطر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في السفر الطارئ عليهم بفتح مكة ، على ما تقدم . وقد كانوا ابتدؤوا الصوم في الحضر . وقال أبو حنيفة : من [ ص: 205 ] شهد الشهر بشروط التكليف فليصمه ، ومن دخل عليه وهو مجنون ، وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه ; لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام . ومن جن أول الشهر ، أو آخره ; فإنه يقضي أيام جنونه .

قال القاضي أبو محمد بن عطية : ونصب الشهر على هذا التأويل على المفعول الصريح : بـ (شهد) .

قلت : وتكميله أن يكون شهد بمعنى : شاهد .

التالي السابق


الخدمات العلمية