المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1933 [ 1012 ] وعن عائشة قالت : كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان الشغل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أو برسول الله - صلى الله عليه وسلم- .

وفي رواية : وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم .

رواه البخاري (1950)، ومسلم (1146) (151)، وأبو داود (2399)، والترمذي (783)، والنسائي (4 \ 191) .


وقول عائشة -رضي الله عنها- : ( أنها يكون عليها الصوم فما تستطيع أن تقضيه حتى يأتي شعبان ) ; فيه حجة على أن قضاء رمضان ليس على الفور ; خلافا لداود في إيجابه إياه ثاني شوال ، ومن لم يصمه كذلك فهو آثم عنده . وهذا الذي صار إليه داود خلافا لما يفهم من هذا الحديث ومن قوله تعالى : فعدة من أيام أخر ; فإنه لم يعينها ، ولا قيدها بقيد ، فتعيينها تحكم بغير دليل .

وحديث عائشة هذا وإن لم تصرح فيه برفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يعلم : أنه لا يخفى مثله عنه ، ولا أن أزواجه ينفردن بآرائهن في مثل هذا الأمر المهم الضروري ، فالظاهر : أن ذلك عن إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسويفه لهن ذلك . فوقت قضائه على هذا : من شوال إلى شعبان . وهو قول مالك ، والشافعي . فله أن يوقعه في أي وقت من أوقات المدة المذكورة شاء . وحينئذ يأثم مؤخره عن شعبان لتفريطه .

ثم هل تلزمه كفارة لذلك ، أم لا تلزمه ؟ فالأول قول مالك ، والشافعي ، ومعظمهم . وقال به ابن عباس ، وعائشة . وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، وداود : إلى أنه لا كفارة عليه .

ثم اختلف أصحابنا فيما به يكون مفرطا : فمعظم الشيوخ: على أنه لا يكون مفرطا إلا بترك القضاء عند خروج مقدار ما عليه من أيام الصوم من شعبان . ولو صح من سنته ، ثم جاءه ما منعه حتى دخل عليه رمضان ; لم تلزمه الكفارة .

وقال بعضهم : إنه تراعى صحته ، وإقامته من أول عامه ، فمن صح من [ ص: 206 ] شوال فما بعده مدة يمكنه فيه قضاء ما عليه فلم يفعل حتى جاءه ما منعه حتى دخل عليه رمضان ; فقد لزمته الكفارة . ونحوه في " المدونة " .

قلت : والقول الأول جار على القياس في التوسيع لوقت الصلاة ; فإنه لو صح في أول وقت الصلاة ، ثم أغمي عليه مثلا ; حتى خرج الوقت ; أعني : وقت الضرورة عند أصحابنا لم يلزمه قضاء ، وعلى ذلك القياس : لو مات في أثناء السنة لم يقض . وقد حكى أبو حامد : إجماع السلف على ذلك القياس في الصلاة ، اللهم إلا أن يخاف الفوت لحضور سببه ; فيتعين الفعل إذ ذاك ، فإن أخره أثم .

وأما القول الثاني : فإنما يتمشى على مذهب من يقول : إنه موسع بشرط سلامة العاقبة ، كما يقوله الكرخي . ولا نعلم أحدا من أصحابنا قال به ، غير أن هذا الفرع يقتضي مراعاة ذلك الأصل ، والله تعالى أعلم .

ثم اختلف في قضاء رمضان : هل من شرطه التتابع ؟ وبه قال جماعة من الصحابة ، والتابعين ، وأهل الظاهر . أو ليس من شرطه ذلك . وهو مروي أيضا عن جماعة من الصحابة ، والتابعين ، وكافة علماء الأمصار متمسكين بإطلاق قوله تعالى : فعدة من أيام أخر والتقييد لا بد فيه من دليل ، ولا حجة في قراءة عبد الله " متتابعات " ; إذ ليست تلك الزيادة بقرآن متواتر ، ولا مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يعمل بها ، وهي محمولة على أنها من تفسير ابن مسعود لرأي رآه . والله تعالى أعلم .

وقولها : ( الشغل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، وفي الرواية [ ص: 207 ] الثالثة : ( فما نقدر أن نقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ; كل هذه الألفاظ محومة على أن مراعاة حقوق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أزواجه كانت الموجبة لتأخير قضاء رمضان إلى شعبان .

وتفيد أن تأخير القضاء إلى شعبان مسوغ ، وأن المبادرة به أولى ، وأن ذلك التأخير كان عن إذنه - صلى الله عليه وسلم - . وارتفع ( الشغل ) في الرواية الأولى على أنه فاعل بفعل مضمر ، دل عليه المساق ; كأنها قالت : منعني الشغل .

وظاهر مساق الألفاظ : أنها من قول عائشة ، وخصوصا : في الرواية الثالثة ، فإن ذلك نص ; غير أن البخاري ذكر الرواية الأولى ، ثم قال : (قال يحيى : الشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . فقال لذلك بعض علمائنا : إن ذلك القول في الرواية الأولى ليس من قول عائشة ، وإنما هو من قول غيرها ، وسكت عنه .

قلت : وهبك أن الرواية الأولى قابلة للاحتمال ، لكن الثالثة لا تقبل شيئا من ذلك ، فتأملها .

التالي السابق


الخدمات العلمية