المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
167 (37) باب

قتل الإنسان نفسه ليس بكفر

[ 91 ] عن جابر ; أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ - قال : حصن كان لدوس في الجاهلية - فأبى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، للذي ذخر الله للأنصار ، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، هاجر إليه الطفيل بن عمرو ، وهاجر معه رجل من قومه ، فاجتوى المدينة ، فمرض ، فجزع ، فأخذ مشاقص له ، فقطع بها براجمه ، فشخبت يداه حتى مات ، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه ، فرآه وهيئته حسنة ، ورآه مغطيا يديه ، فقال له : ما صنع بك ربك ؟ فقال : غفر لي بهجرتي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما لي أراك مغطيا يديك ؟ قال : قيل لي : لن نصلح منك ما أفسدت ، فقصها الطفيل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم ، وليديه فاغفر .

رواه أحمد ( 3 \ 371 ) ، ومسلم ( 116 ) .


[ ص: 322 ] (37) ومن باب قتل الإنسان نفسه ليس بكفر

(قوله : " هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ ") الحصن : واحد الحصون ، وهي القصور والقلاع التي يتحصن فيها ، وحصين : فعيل للمبالغة ، أي : شديد المنع لمن فيه . ومنعة : يروى بفتح النون وسكونها ، وفي الصحاح يقال : فلان في عز ومنعة بالتحريك ، وقد يسكن عن ابن السكيت ، ويقال : المنعة بالتحريك : جمع مانع ، ككافر وكفرة ، أي : هو في عز وعشيرة يمنعونه .

و (قوله : " وهاجر معه رجل من قومه ، فاجتوى المدينة ، فمرض فجزع ، فأخذ ") هكذا صواب الرواية بتوحيد رجل ، وعطف ما بعده على ما قبله على [ ص: 323 ] الإفراد ، وهي رواية عبد الغافر ، وعند غيره تخليط ; فمنهم من جمع ، فقال : رجال ، فاجتووا المدينة ، ثم قال بعده : فمرض فجزع على الإفراد . والأول : أصوب . واجتوى المدينة ، أي : كرهها ; يقال : اجتويت المدينة : إذا كرهتها ، وإن كانت موافقة لك في بدنك ، قال الخطابي : أصل الاجتواء استيبال المكان ، وكراهية المقام فيه ; لمضرة لحقته ، وأصله : من الجوى ، وهو فساد الجوف .

و (قوله : " فأخذ مشاقص ، فقطع بها براجمه ") المشاقص : جمع مشقص ، وهو السهم العريض ، وقال الداودي : هو السكين . والبراجم والرواجب : مفاصل الأصابع كلها ، وقال أبو مالك في كتاب " خلق الإنسان " : الرواجب : رؤوس العظام في ظهر الكف ، والبراجم : هي المفاصل التي تحتها .

و (قوله : " فشخبت ") بالشين المعجمة ، وهو بالخاء المعجمة ، وبفتحها في الماضي ، وضمها في المضارع ، وقد تفتح ، ومعناه : سال ، قال ابن دريد : كل شيء سال ، فهو شخب - بضم الشين وفتحها - وهو : ما خرج من الضرع من اللبن ، وكأنه الدفعة منه ، ومنه المثل : شخب في الأرض ، وشخب في الإناء! ، يقال للذي يصيب مرة ، ويخطئ في أخرى ; تشبيها له بالحالب الذي يفعل ذلك .

[ ص: 324 ] و (قوله : " غفر لي بهجرتي إلى نبيه ") دليل على أن الكبائر قد تغفر بفعل القواعد ، وفيه نظر سيأتي في الطهارة ، إن شاء الله تعالى .

و (قوله : " لن نصلح منك ما أفسدت ") دليل على أن المغفرة قد لا تتناول محل الجناية ، فيحصل منه توزيع العقاب على المعاقب ; ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : اللهم ، وليديه فاغفر .

والظاهر : أن هذا الرجل أدركته بركة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فغفر له وليديه ، وكمل له ما بقي من المغفرة عليه ; وعلى هذا : فيكون قوله : لن نصلح منك ما أفسدت ممتدا إلى غاية دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له ; فكأنه قيل له : لن نصلح منك ما أفسدته ما لم يدع لك النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وهذا الحديث يقتضي أن قاتل نفسه ليس بكافر ، وأنه لا يخلد في النار ، وهو موافق لمقتضى قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] . وهذا الرجل ممن شاء الله أن يغفر له ; لأنه إنما أتى بما دون الشرك ، وهذا بخلاف القاتل نفسه المذكور في حديث جندب ; فإنه ممن شاء الله أن يعذبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية