المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1944 (19) باب

فضل الصيام ، والأمر بالتحفظ به من الجهل والرفث

[ 1018 ] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : قال الله عز وجل : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ، ولا يسخب (وفي رواية: ولا يجهل) فإن سابه أحد ، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم ، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك ، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه فرح بصومه .

وفي رواية : كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال: قال الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي .

رواه أحمد (2 \ 273)، والبخاري (1904)، ومسلم (1151) (163 و 164 )، والنسائي (4 \ 162-163) .


(19) ومن باب: فضل الصيام

قوله : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ) ; اختلف في معنى هذا على أقوال : [ ص: 212 ] أحدها : أن أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها ، فيكون لهم ، إلا الصيام فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص ; لأن حال الممسك شبعا ، كحال الممسك تقربا ، وارتضاه المازري .

وثانيها : أن أعمال بني آدم كلها لهم فيها حظ إلا الصيام فإنهم لا حظ لهم فيه ; قاله الخطابي .

وثالثها : أن أعمالهم هي أوصافهم ، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام ; فإنه استغناء عن الطعام ، وذلك من خواص أوصاف الحق سبحانه وتعالى .

ورابعها : أن أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفا ، كما قال : (بيتي) و (عبادي) .

وخامسها : أن أعمالهم يقتص منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام فإنه لله ، ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئا . قاله ابن العربي . وقد كنت استحسنته إلى أن فكرت في حديث المقاصة ، فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها ، فإنه قال فيه : (هل تدرون من المفلس ؟) قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : (المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، وسفك دم هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه ; أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ، ثم طرح في النار) . وهذا يدل على أن الصوم يؤخذ كسائر الأعمال .

[ ص: 213 ] وسادسها : أن الأعمال كلها ظاهرة للملائكة ، فتكتبها إلا الصوم ، وإنما هو نية وإمساك ، فالله يعلمه ، ويتولى جزاءه ; قاله أبو عبيد .

وسابعها : أن الأعمال قد كشفت لبني آدم مقادير ثوابها ، وتضعيفها إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير ، ويشهد لهذا مساق الرواية الأخرى التي فيها : (كل عمل ابن آدم يضاعف ; الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله : إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به) ; يعني - والله تعالى أعلم - : أنه يجازي عليه جزاء كثيرا من غير أن يعين مقداره ، ولا تضعيفه ، وهذا كما قال الله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين . وهذا ظاهر قول الحسن ، غير أنه قد تقدم ، ويأتي في غير ما حديث : أن صوم اليوم بعشرة ، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وصيام رمضان صيام الدهر . وهذه نصوص في إظهار التضعيف ، فبعد هذا الوجه ، بل بطل .

والأولى حمل الحديث على أحد الأوجه الخمسة المتقدمة ; فإنها أبعد عن الاعتراضات الواقعة ، والله تعالى أعلم .

وقوله : ( يذر شهوته وطعامه من أجلي ) ; تنبيه على الجهة التي بها يستحق الصوم أن يكون كذلك ، وهو الإخلاص الخاص به ، كما قدمناه في الوجه الأول .

وقوله : ( الصيام جنة ) ، مادة هذه اللفظة التي هي : الجيم والنون كيف ما دارت صورها بمعنى : السترة ; كالجن ، والجنة ، والجنون ، والمجن ; فمعناه : أن الصوم سترة ، فيصح أن يكون ( جنة ) بحسب مشروعيته ; أي : ينبغي للصائم أن يعريه مما يفسده ، ومما ينقص ثوابه ; كمناقضات الصيام ، ومعاصي اللسان . وإلى هذه الأمور وقعت الإشارة بقوله : ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ، ولا [ ص: 214 ] يسخب ) إلخ ، ويصح أن يسمى : ( جنة ) بحسب فائدته ، وهو إضعاف شهوات النفس ، وإليه الإشارة بقوله : ( ويذر شهوته وطعامه من أجلي ) . ويصح أن يكون " جنة " بحسب ثوابه . وإليه التصريح بقوله : ( من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا ) .

وقوله : ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب ) ، لا يفهم من هذا الشرط : أن غير يوم الصوم يباح فيه الرفث والسخب ، فإنهما ممنوعان على الإطلاق ، وإنما تأكد منعهما بالنسبة إلى الصوم .

والرفث : الفحش من الكلام ، والسخب منه . يقال : (رفث) بفتح الفاء ، (يرفث) ، بضمها ، وكسرها . و (رفث) بكسرها في الماضي (يرفث) بفتحها في المستقبل (رفثا) بسكونها في المصدر ، وفتحها في الاسم . ويقال : (أرفث) أيضا ، وهي قليلة .

و (السخب) : اختلاط الأصوات ، وكثرتها ، ورفعها بغير الصواب . يقال : بالسين والصاد . وعند الطبري : مكان : (لا يسخب) (لا يسخر) ; يعني : السخرية بالناس ، والأول هو المعروف .

والجهل في الصوم : هو العمل فيه على خلاف ما يقتضيه العلم . وقد روى النسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا : (من لم يدع قول الزور ، والعمل به ، والجهل في الصوم ، فليس لله حاجة في ترك طعامه وشرابه) .

وقوله : ( فإن أحد سابه أو قاتله فليقل : إني صائم ) ; المسابة والمقاتلة مما لا تكون إلا من اثنين غالبا ، ولم تقع هنا إلا من أحدهما ، لكنه لما عرض أحدهما [ ص: 215 ] الآخر لذلك صدق اللفظ عليهما .

وظاهره : أن الصائم يقول ذلك القول المأمور به للساب ليسمعه ، وليعلمه اعتصامه بالصوم ، فينكف عن سبه . ويحتمل أن يراد أنه يقول ذلك لنفسه مذكرا لها بذلك ، وزاجرا عن السباب .

واختلف إذا سب الصائم أحدا ، أو اغتابه : فالجمهور على أن ذلك ليس بمفسد للصوم . وذهب الأوزاعي : إلى أن ذلك مفطر مفسد . وبه قال الحسن فيما أحسب .

وقوله : ( لخلوف فم الصائم ) ، هكذا الرواية الصحيحة ; بضم الخاء ، ومن لا يحقق بقوله بفتح الخاء . وقال الخطابي : هو خطأ . قال الهروي : خلف فوه : إذا تغير ، يخلف ، خلوفا . ومنه : حديث علي وسئل عن قبلة الصائم فقال : (وما أربك إلى خلوف فيها ؟) .

ويقال : نومة الضحى مخلفة للفم ; أي : مغيرة . قال صاحب " الأفعال " : خلف فوه ، وأخلف .

وقد أخذ الشافعي من هذا الحديث منع الصائم من السواك من بعد الزوال . قال : لأن ذلك الوقت مبدأ الخلوف ، قال : والسواك يذهبه . وربما نظم بعض الشافعية في هذا قياسا ، فقال : أثر عبادة فلا يزال كدم الشهيد .

وهذا القياس ترد عليه أسئلة من جملتها ; القول : ومع أن السواك يزيل الخلوف ، فإنه من المعدة والحلق ، لا من محل السواك ، وحينئذ لا يلزم شيء من ذلك . وقد أجاز كافة العلماء للصائم أن يتسوك بسواك لا طعم له ، في أي أوقات النهار شاء .

وقوله : ( أطيب عند الله من ريح المسك ) ; لا يتوهم : أن الله تعالى يستطيب الروائح ، ويستلذها ، كما يقع لنا من اللذة ، والاستطابة ; إذ ذاك من صفات افتقارنا ، واستكمال نقصنا ، وهو الغني بذاته ، الكامل بجلاله وتقدسه . على أنا نقول : إن الله تعالى يدرك المدركات ، ويبصر المبصرات ، ويسمع المسموعات على الوجه اللائق بجماله وكماله وتقدسه عن شبه مخلوقاته ، وإنما معنى هذه الأطيبية عند الله تعالى راجعة إلى أن الله تعالى يثيب على خلوف فم الصائم ثوابا [ ص: 216 ] أكثر مما يثيب على استعمال روائح المسك ، حيث ندب الشرع إلى استعماله فيها ، كالجمع والأعياد وغير ذلك . ويحتمل أن يكون ذلك في حق الملائكة ، فيستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك .

وقوله : ( وللصائم فرحتان : إذا أفطر فرح بفطره ) ; أي : فرح بزوال عطشه وجوعه حين أبيح له الفطر . وهذا الفرح طبيعي ، وهو السابق للفهم . وقيل : إن فرحه بفطره ; إنما هو من حيث إنه: تمام صومه ، وخاتمة عبادته ، وتحقيق ريه ومعونته على مستقبل صومه .

وأما قوله : ( وإذا لقي ربه فرح بصومه ) ; أي : بجزاء صومه وثوابه .

التالي السابق


الخدمات العلمية