المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1966 (22) باب

كراهية سرد الصوم ، وبيان أفضل الصوم

[ 1026 ] عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : بلغ نبي - صلى الله عليه وسلم- أني أصوم أسرد ، وأصلي الليل ، فإما أرسل إلي وإما لقيته فقال: ألم أخبر بك أنك تصوم ولا تفطر وتصلي الليل ؟ فلا تفعل .

وفي رواية : قال : فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عيناك ونفهت نفسك ،
فإن لعينك حظا ، ولنفسك حظا ، ولأهلك حظا ، فصم وأفطر ، وصل ونم ، وصم من كل عشرة أيام يوما ، ولك أجر تسعة . قال: إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله! قال: صم صيام داود قال: وكيف كان داود يصوم يا نبي الله ؟ ! قال: كان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى . قال: من لي بهذه يا نبي الله ؟ ! قال: عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : لا صام من صام الأبد ، لا صام من صام الأبد .


رواه أحمد (2 \ 198)، والبخاري (1974)، ومسلم (1159) (186)، وأبو داود (1389)، والترمذي (770)، والنسائي (4 \ 209 و 215 ) .


[ ص: 224 ] (22) ومن باب: كراهية سرد الصوم

حديث عبد الله بن عمرو اشتهر وكثر رواته ، فكثر اختلافه حتى ظن من لا بصيرة عنده: أنه مضطرب . وليس كذلك ; فإنه إذا تتبع اختلافه ، وضم بعضه إلى بعض انتظمت صورته ، وتناسب مساقه ; إذ ليس فيه اختلاف تناقض ، ولا تهاتر ، بل يرجع اختلافه إلى أن ذكر بعضهم ما سكت عنه غيره ، وفصل بعض ما أجمله غيره . وسنشير إلى بعضه إن شاء الله تعالى .

وقوله : ( ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر ، وتصلي ) ; هذا إنما فعله عبد الله بعد أن التزمه بقوله : ( لأصومن النهار ، ولأقومن الليل ما عشت - كما جاء في الرواية الأخرى- فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فحكى بعض الرواة الفعل ، وحكى بعضهم القول .

وقوله : ( لا تفعل ) نهي عن الاستمرار في فعل ما التزمه لأجل ما يؤدي إليه من المفسدة التي نبه عليها بقوله : ( فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عيناك ) ; قال المفسرون : أي : غارتا ودخلتا .

قلت : وتحقيقه : هجمت على الضرر دفعة واحدة . فإن الهجم هو : أخذ الشيء بسرعة بغتة . ويحتمل أن يكون معناه : هجمت العين عليه بغلبة النوم لكثرة السهر السابق ، فينقطع عما التزم ، فيدخل في ذم من ابتدع رهبانية ولم يرعها ، وكما قال له : ( يا عبد الله ! لا تكن مثل فلان ; كان يقوم الليل ، فترك قيام الليل ) .

[ ص: 225 ] وقوله : ( ونفهت نفسك ) ; أي : أعيت ، وضعفت عن القيام بذلك ، كما قال في لفظ آخر : ( نهكت نفسك ) .

وقوله : ( فإن لعينك حظا ، ولنفسك حظا ) ; أي : من الرفق بهما ، ومراعاة حقهما ، وقد سمى في الرواية الأخرى : الحظ : ( حقا ) ; إذ هو بمعناه ، وزاد : ( فإن لزوجك عليك حقا ، ولزورك عليك حقا ) ، وفي لفظ آخر : ( ولأهلك ) مكان ( ولزوجك ) .

وأما حق الزوجة فهو في الوطء ، وذلك إذا سرد الصوم ، ووالى القيام بالليل منعها بذلك حقها منه .

وأما حق الزور - وهو الزائر والضيف - فهو : القيام بإكرامه ، وخدمته ، وتأنيسه بالأكل معه .

وأما الأهل فيعني به هنا : الأولاد ، والقرابة . وحقهم : هو في الرفق بهم ، والإنفاق عليهم ، ومؤاكلتهم ، وتأنيسهم . وملازمة ما التزم من سرد الصوم ، وقيام الليل يؤدي إلى امتناع تلك الحقوق كلها .

ويفيد : أن الحقوق إذا تعارضت قدم الأولى .

وقوله : ( صم من كل عشرة يوما ) ; هذا في المعنى موافق للرواية التي قال فيها : ( صم من كل شهر ثلاثة أيام ، فإن الحسنة بعشر أمثالها ) ; وكذلك قوله في الرواية الأخرى : ( صم يوما ولك أجر ما بقي ) ، على ما يأتي . وهذا الاختلاف وشبهه من باب النقل بالمعنى .

وقوله : ( فصم صوم داود ) ; هكذا جاء في هذه الرواية ، سكت فيها عن المراتب التي ثبتت في الرواية الآتية بعد هذا ، وذلك أن فيها نقلة من صيام ثلاثة [ ص: 226 ] أيام في الشهر إلى أربعة فيها ، ومنها إلى صوم يومين وإفطار يومين ، ثم منها إلى صوم يوم وإفطار يوم . وهذا محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - درجه في هذه المراتب هكذا ، لكن بعض الرواة سكت عن ذكر بعض المراتب إما نسيانا ، أو اقتصارا على قدر ما يحتاج إليه في ذلك الوقت ، ثم في وقت آخر ذكر الحديث بكماله .

وقوله : ( فصم صوم داود ; فإنه كان أعبد الناس ) ; إنما أحاله على صوم داود ، ووصفه : بأنه كان أعبد الناس لقوله تعالى : واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب قال ابن عباس : الأيد هنا : القوة على العبادة . و (الأواب) : الرجاع إلى الله تعالى وإلى عبادته ، وتسبيحه .

وقوله : ( ولا يفر إذا لاقى ) ; تنبيه على أن صوم يوم ، وإفطار يوم لا يضعف ملتزمه ، بل يحفظ قوته ، ويجد من الصوم مشقته كما قدمناه ، وذلك بخلاف سرد الصوم فإنه ينهك البدن والقوة ، ويزيل روح الصوم ; لأنه يعتاده ، فلا يبالي به ، ولا يجد له معنى .

وقول عبد الله بن عمرو : ( من لي بهذه ) ; إشارة إلى استبعاد عدم الفرار ، وتمني أن لو كانت له تلك القوة . ومعنى قوله : (من لي بهذا الشيء) ; أي : من يتكفل لي به ؟ أو من يحصله لي ؟ .

وقول عطاء : ( فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد ؟ ) . هو شك عرض للراوي ، ثم [ ص: 227 ] قال بعد أن عرض له ذلك الشك : ( لا صام من صام الأبد ) ، فأتى بصوم الأبد على هذا اللفظ من غير شك ولا تردد ، بل حقق نقله ، وحرر لفظه .

وأما الذي تقدم في حديث أبي قتادة : فإنه شك في أي اللفظين قال ، فذكرهما ، فقال فيه : قال : يا رسول الله! كيف من يصوم الدهر ؟ ! قال : (لا صام ، ولا أفطر) ، أو : (لم يصم ، ولم يفطر) . وقد تقدم القول على صوم الدهر .

و ( الأبد ) : من أسماء الدهر . والمراد به هنا : سرد الصوم دائما ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية