المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
445 [ 1037 ] وعنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان .

رواه أحمد (6 \ 81)، والبخاري (2029)، ومسلم (297) (6)، وأبو داود (2468)، والنسائي (1 \ 193)، وابن ماجه (1776) .


[ ص: 244 ] (2) ومن باب: للمعتكف أن يختص بموضع من المسجد

قول عائشة : (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ، ثم دخل في معتكفه) ; أخذ بظاهره الأوزاعي ، والثوري ، والليث في أحد قوليه . وقال أبو ثور : يفعل هذا من نذر عشرة أيام ، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس من الليلة . وقال مالك : لا يدخل اعتكافه إلا قبل غروب الشمس . وقال أحمد ، ووافقهما الشافعي وأبو حنيفة ، وأبو ثور في الشهر ، واختلفوا في الأيام : فقال الشافعي : يدخل فيها قبل طلوع الفجر ، وبه قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب في الأيام وفي الشهر . وقال عبد الملك : لا يعتد بذلك اليوم .

وسبب هذا الخلاف هو : هل أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها أم لا تدخل ؟ وإن اليوم هو المقصود بالاعتكاف ، والليل تابع ; قولان : ومن قال بالأول تأول الحديث المتقدم ، على أن معناه : أنه كان إذا صلى الصبح في الليلة التي دخل من أولها في اعتكافه ، دخل قبة [ ص: 245 ] اعتكافه التي ينزوي فيها نهاره ، لا أن وقت دخوله قبته كان أول اعتكافه ، والله تعالى أعلم .

وقولها : ( وإنه أمر بخبائه فضرب ) ; هذا إنما كان قبل أن يشرع في الاعتكاف ، بدليل قولها : ( أراد الاعتكاف في العشر الأواخر ) ; ففي كلامها هذا تقديم وتأخير ، فإن أول ما فعل لما أراد الاعتكاف ضرب له الخباء ، ثم إن أزواجه لما رأين عزمه على الاعتكاف ، وأخذه فيه ; شرعن فيه رغبة منهن في الاقتداء به ، وفي تحصيل الأجر ، غير أنهن لم يستأذنه ، فلذلك أنكر عليهن ، ويحتمل أن يكون إنكاره لأوجه أخر :

منها : أن يكون خاف أن يكون الحامل لهن على الاعتكاف غيرتهن عليه ، وحرصهن على القرب منه .

ومنها : أن يكون كره لهن ملازمتهن المسجد مع الرجال ، أو يكن ضيقن المسجد على الناس بأخبيتهن ، أو يؤدي مكثهن في المسجد إلى أن يطلع عليهن المنافقون لكثرة خروجهن لحاجتهن ، أو يؤدي ذلك إلى أن تنكشف منهن عورة ، أو يؤدي ذلك إلى تضييع حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - وحوائجه في بيوتهن .

وكل هذه الاحتمالات مناسبة ، وبعضها أقرب من بعض ، ولا يبعد أن يكون مجموعها هو المراعى عنده ، أو شيء آخر لم يطلع عليه ، والله تعالى أعلم .

وأما استئذان المرأة زوجها في الاعتكاف المتطوع به ، فلا بد منه عند العلماء للذي تقدم في استئذانها إياه في الصوم ، وللزوج أن يمنعها منه ما لم يكن نذرا معينا ، فلو كان مطلقا ، فله أن يمنعها من وقت إلى وقت ما لم تخف الفوت . وكذلك العبد والأمة .

[ ص: 246 ] وقوله : ( آلبر تردن ؟) بهمزة الاستفهام ، ومده على جهة الإنكار ، ونصب (البر) على أنه مفعول (تردن) مقدما .

وأمره - صلى الله عليه وسلم - بتقويض خبائه ، وتركه الاعتكاف ; إنما كان ذلك - والله أعلم - قبل أن يدخل في الاعتكاف ، وهو الظاهر من مساق الحديث ، فلا يكون فيه حجة لمن يقول : إن من دخل في تطوع جاز له أن يخرج منه ، وإنه إنما كان عزم عليه ، وأراده ، لا أنه دخل فيه .

وتركه - صلى الله عليه وسلم - الاعتكاف في ذلك العشر الذي كان قد عزم على اعتكافه : إنما كان مواساة لأزواجه ، وتطييبا لقلوبهن ، وتحسينا لعشرتهن ، أو لعله توقع من تماديه على الاعتكاف ظن أنه هو المخصوص بالاعتكاف دونهن .

وكونه اعتكف في شوال يدل : على أن الاعتكاف ليس مخصوصا برمضان ، ولا يقال فيه ما يدل على قضاء التطوع ; لأنا لا نسلم أنه قضاء ، بل هو ابتداء ; إذ لم يجب عليه لا بالأصل ، ولا بالنذر ، ولا بالدخول فيه ; إذ لم يكن دخل فيه بعد .

كيف ومعقولية القضاء إنما تتحقق فيما اشتغلت الذمة به ، فإذا لم يكن شغل ذمة ، فأي شيء يقضي ؟ غاية ما في الباب : أنه ابتدأ عبادة هي من نوع ما فاته .

التالي السابق


الخدمات العلمية