المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2012 (12)

كتاب الحج

(1) باب

ما يجتنبه المحرم من اللباس والطيب

[ 1047 ] عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس خفين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ، ولا الورس .

رواه أحمد (2 \ 3 و 4 )، والبخاري (133)، ومسلم (1177) (1)، وأبو داود (1737)، والترمذي (831)، والنسائي (5 \ 22)، وابن ماجه (2914) .


[ ص: 255 ] (12)

كتاب الحج

قد تقدم الكلام على الحج من حيث اللغة والعرف في أول كتاب الإيمان ، واختلف في زمان فرض الحج ; فقيل : سنة خمس من الهجرة . وقيل : سنة تسع ، وهو الصحيح ; لأن فتح مكة كان في التاسع عشر من رمضان سنة ثماني سنين من الهجرة ، وحج بالناس في تلك السنة عتاب بن أسيد ، ووقف بالمسلمين ، ووقف المشركون على ما كانوا يفعلون في الجاهلية ، فلما كانت سنة تسع فرض الحج ، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر فحج بالناس تلك السنة ، ثم أتبعه علي بن أبي طالب بسورة براءة ، فقرأها على الناس في الموسم ، ونبذ للناس عهدهم ، ونادى في الناس : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . ووافقت حجة أبي بكر في تلك السنة أن كانت في شهر ذي القعدة ; على ما كانوا يديرون الحج في كل شهر من شهور السنة ، فلما كانت سنة عشر حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجته المسماة : بحجة الوداع ، على ما يأتي في حديث جابر وغيره . ووافق النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك السنة أن وقع الحج في ذي الحجة ، في زمانه ووقته الأصلي الذي فرضه الله [ ص: 256 ] فيه ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) ، وسيأتي لهذا مزيد بيان .

وأجمع المسلمون على وجوب الحج في الجملة ، وأنه مرة في العمر . ولوجوبه شروط ; وهي : العقل ، والبلوغ ، والاستطاعة ، على ما يأتي تفصيلها . وهذه الشروط هي المتفق عليها ، فأما الإسلام فقد اختلف العلماء فيه : هل هو من شروط الوجوب ؟ أو من شروط الأداء ؟ وأما الحرية : فالجمهور على اشتراطها في الوجوب ، وفيها خلاف .

واختلف أصحاب مالك ، والشافعي في وجوب الحج : هل هو على الفور ، أو على التراخي ، فذهب العراقيون من أصحابنا : إلى أنه على الفور . وهو قول المزني ، وأبي يوسف . وذهب أكثر المغاربة ، وبعض العراقيين : إلى أنه على التراخي . وهو قول محمد بن الحسن . وكلهم اتفقوا : على أنه يجوز تأخيره السنة والسنتين .

وسبب الخلاف اختلافهم في مطلق الأمر ; هل يقتضي الفور ، أو لا يقتضيه ؟ وهذا الأصل تنكشف حقيقته في علم الأصول . وأيضا : فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخر الحج سنة بعد إيجابه ; كما قدمنا .

(1) ومن باب: ما يجتنبه المحرم من اللباس

قوله وقد سئل عما يلبسه المحرم من الثياب - : ( لا تلبسوا القمص . . .) الحديث ; إنما أجاب - صلى الله عليه وسلم - بما لا يلبس ، وإن كان قد سئل عما يلبس ; لأن ما لا يلبس المحرم منحصر ، وما يلبسه غير منحصر ، فعدل إلى المنحصر فأجابه به ، وقد أجمع المسلمون على أن ما ذكره في هذا الحديث لا يلبسه المحرم مع الرفاهية والإمكان ، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالقميص والسراويل : على كل مخيط ، وبالعمائم والبرانس : على كل ما يغطي الرأس ; مخيطا كان أو غيره ، وبالخفاف : [ ص: 257 ] على كل ما يستر الرجل مما يلبس عليها ، وإن لباس هذه الأمور جائز في غير الإحرام .

وقوله : ( إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين ) ; هذا الحديث رد على من قال : إن المحرم لا يقطع الخفين لأنه إضاعة مال ، وهذا من هذا القائل حكم بالعموم على الخصوص ، وهو عكس ما يجب ; إذ هو : إعمال المرجوح وإسقاط الراجح ، وهو فاسد بالإجماع ، ثم من قال بإباحة قطع الخف ، فإذا لبسه فهل تلزمه فدية ، أم لا تلزمه ؟ قولان :

الأول : لأبي حنيفة . والثاني : لمالك ، وهو الأولى ; لأنه لو لزمته لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - للسائل حين سأله ; إذ ذاك محل البيان ووقته ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بالإجماع ، وأيضا فحينئذ يكون قطع الخف لا معنى له ; إذ الفدية ملازمة بلباسه غير مقطوع ، فأما لو لبس الخفين المقطوعين مع وجود النعل للزمه الفدية بلبسهما ، فإنه إنما أباح الشارع له لباسهما مقطوعين بشرط عدم النعلين ، فلبسهما كذلك غير جائز ، هذا قول مالك ، واختلف فيه قول الشافعي .

وقوله : ( ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس ) ; هذا مما أجمعت الأمة عليه ; لأن الزعفران والورس من الطيب ، واستعمالهما ينافي بذاذة الحاج ، وشعثه المطلوب منه ، وأيضا فإنهما من مقدمات الوطء ومهيجاته ، والمحرم ممنوع من الوطء ومقدماته ، ويستوي في المنع منهما : الرجال والنساء ، [ ص: 258 ] وعلى لابس ذلك الفدية عند مالك ، وأبي حنيفة ، ولم يرها الثوري ، ولا الشافعي ، وإسحاق ، وأحمد إذا لبس ذلك ناسيا ، فأما المعصفر فرآه الثوري وأبو حنيفة طيبا كالمزعفر ، ولم يره مالك ، ولا الشافعي طيبا ، وكره مالك المقدم منه ، واختلف عنه : هل على لابسه فدية ، أم لا ؟ وأجاز مالك سائر الثياب المصبغة بغير هذه المذكورات ، وكرهها بعضهم لمن يقتدى به .

التالي السابق


الخدمات العلمية