المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2028 [ 1052 ] وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل ؟ فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، والطريق الآخر الجحفة ، ومهل أهل العراق من ذات عرق ، ومهل أهل نجد من قرن ، ومهل أهل اليمن من يلملم .

رواه مسلم (1183) (18) .


(2) ومن باب: المواقيت

قوله : ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ) ، وفي حديث أبي الزبير : ( ومهل أهل العراق من ذات عرق ) . معنى وقت : حدد وعين ، وظاهره يدل: على أن هذه الحدود لا يتعداها مريد الإحرام حتى يحرم عندها ، وقد أجمع المسلمون على أن المواقيت مواضع معروفة في الجهات التي يدخل منها إلى مكة .

فـ ( ذو الحليفة ) : ماء من مياه بني جشم ، على ستة أميال ، أو سبعة من المدينة .

و ( الجحفة ) : بين مكة والمدينة ، سمي بذلك لأن السيول أجحفت بما حوله ، وهو على ثمانية مراحل من المدينة . وتسمى أيضا : ( مهيعة ) بسكون الهاء ، وقال بعضهم : بكسرها .

و ( قرن المنازل ) بسكون الراء ، وقد فتحها بعضهم ، والأول أعرف . وقال القابسي : من قاله بالإسكان أراد الجبل ، ومن فتح أراد الطريق الذي يقترب منه ; فإنه موضع فيه طرق مختلفة . ويقال له أيضا : قرن الثعالب ، وهو جبيل مستطيل تلقاء مكة بينه وبينها أربعون ميلا .

و ( يلملم ) : جبيل من جبال تهامة على ليلتين من مكة . ويقال فيه : ( ألملم ) بالهمز .

وأما : ( ذات عرق ) : فثنية ، أو [ ص: 263 ] هضبة بينها وبين مكة يومان وبعض يوم . فهذه مواقيت الحج من المكان ، لم يختلف في شيء منها إلا في ذات عرق ، والجمهور على أنه : ميقات لأهل العراق ، وقد استحب الشافعي لأهل العراق أن يهلوا من العقيق ، معتمدا في ذلك على ما رواه ابن عباس قال : وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المشرق العقيق ، خرجه أبو داود ، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف عندهم . وروي عن بعض السلف : أنه الربذة .

واختلف أيضا فيمن وقت ذات عرق ; ففي البخاري : أن عمر بن الخطاب حد لأهل العراق ذات عرق ، وقاله مالك . وحديث أبي الزبير عن جابر يدل على أنه بتوقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، غير أن فيه : (أحسبه) فلم يجزم بالرواية . وقد روى النسائي من حديث عائشة حديث المواقيت على ما جاء في حديث ابن عمر المتقدم ، وقال : ( ولأهل العراق ذات عرق ) فجزم في الرواية . وهو صحيح ، ولا يستبعد هذا بأن يقال : بأن العراق إذ ذاك لم يكن فتح . فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنها ستفتح ، وسيحج منها ، فأعلم بذلك الميقات . وقد أقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - مواضع لقوم من المسلمين ، وملكهم إياها مع علمه بأنها في أيدي الكفار ; بناء منه على علمه: بأنها تفتح ، كما أقطع تميما الداري بلد الخليل ، وكتب له بذلك ، وأشهد على نفسه أصحابه ، على ما هو معروف مروي ، وبعض تلك المواضع لم تزل بأيدي عقبه حتى الآن .

وقوله : ( هن لهم ولكل آت أتى عليهن من غير أهلهن ) . هن : ضمير جماعة المؤنث العاقل في الأصل ، وقد يعاد على ما لا يعقل ، وأكثر ذلك في العشرة فدون ، فإذا جاوزوها قالوه بهاء المؤنث ، كما قال تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا [ ص: 264 ] ثم قال : منها أربعة حرم ثم قال : فلا تظلموا فيهن أنفسكم ; ومعنى ذلك الكلام : أنها محدودة ; لا يتعداها أحد يريد الإحرام بأحد النسكين .

واختلف فيمن مر على واحد من هذه المواقيت مريدا للإحرام فجاوزه . فعن مالك : يرجع ما لم يحرم ، أو يشارف مكة ، فإذا رجع لم يلزمه دم ، فلو أحرم لم يرجع لزمه الدم . وبه قال ابن المبارك ، والثوري على خلاف عنه . وجماعة من الفقهاء منهم أبو حنيفة يأمرونه بالرجوع ; فإن رجع سقط عنه الدم .

فأما من جاوز الميقات غير مريد للإحرام ، ثم بدا له في النسك ، فجمهور العلماء : على أنه يحرم من مكانه ، ولا شيء عليه ، وقال أحمد ، وإسحاق : يرجع إلى الميقات .

فأما من مر على الميقات قاصدا دخول مكة من غير نسك ، وكان ممن لا يتكرر دخوله إلى مكة ، فهل يلزمه الإحرام منه ، أو لا يلزمه ؟ وإذا لم يلزمه ، فهو على الاستحباب ، ثم إذا لم يفعله ، فهل يلزمه دم ; أو لا يلزمه ؟ اختلف فيه أصحابنا .

وظاهر الحديث : أنه إنما يلزم الإحرام من أراد مكة لأحد النسكين خاصة . وهو مذهب الزهري ، وأبي مصعب وجماعة من أهل العلم .

وقوله : (فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) ; أي : من كان منزله دون المواقيت إلى مكة فيحرم من منزله ، فخفف عنه الخروج إلى الميقات ، فحينئذ يصير منزله ميقاتا خاصا به ; إذا ابتدأ الإحرام منه ، فلو مر من منزله بعد المواقيت بميقات من المواقيت المعينة العامة ، وهو يريد الإحرام ، وجب عليه أن يحرم منه ، [ ص: 265 ] ولا يؤخر الإحرام إلى بيته لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( هن لهم ، ولكل آت أتى عليهن من غيرهن ) ، ويخالف هذا من كان ميقاته الجحفة ومر بذي الحليفة ; فإن له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة ; لأن الجحفة ميقات منصوب نصبا عاما ، لا يتبدل ، بخلاف المنزل ، فإنه إضافي ، يتبدل بتبدل الساكن ، فانفصلا ، والله تعالى أعلم .

وقوله : ( حتى أهل مكة من مكة ) ; يعني : أنهم يهلون منها ، ولا يخرجون إلى ميقات من المواقيت المذكورة ، فأما الإحرام بالحج فيصح من البلد نفسه ، ومن أي موضع كان من الحل أو الحرم . وأما العمرة فلا بد فيها من الجمع بين الحل والحرم .

التالي السابق


الخدمات العلمية