المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2029 [ 1054 ] وعنه أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، أن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .

قال نافع : وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك لبيك لبيك وسعديك ، والخير بيديك ، والرغباء إليك والعمل .


رواه مسلم (1184) (20) .


[ ص: 266 ] (3) ومن باب: الإحرام والتلبية

قوله : ( يهل ملبدا ) ; أي : يرفع صوته بالتلبية . وأصل الإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال . ثم يقال لكل من رفع صوته : أهل . والتلبيد : هو ضفر الرأس بالخطمي ، أو الصمغ وشبهه مما يضم الشعر ، ويلزق بعضه ببعض ليصير كاللبد ، يمنعه بذلك من التمعط والتقمل ، وفعله جائز ، وهو مستحب لمن يريد الحج أو العمرة ، قاله عياض .

و ( الإحرام ) هو : اعتقاد دخوله في أحد النسكين ، وتقارنه أقوال : وهي : التلبية ، وأفعال ; منها : انبعاث الراحلة على ما يأتي .

فأما التلبية : فاختلف في حكمها ; فالجمهور: على أنها ليست بركن من أركان الحج ، ولا شرط من شروطه ، لكنها سنة مؤكدة يلزم بتركها الدم ، ومن أصحابنا من عبر عنها : بأنها واجبة ، ومراده : ما ذكرناه . وأبو حنيفة يعتقدها ركنا وشرطا في صحة الحج كالتكبير في إحرام الصلاة . وقاله ابن حبيب من أصحابنا ، إلا أن أبا حنيفة على أصله في أنه : يجزئ عنها ما في معناها من التسبيح ، والتهليل ، وذكر الله تعالى ; كما قال في التكبير .

وحكمة مشروعية التلبية : إجابة الداعي الذي دعا إلى الحج ، وهو إبراهيم عليه السلام; إذ قال الله له : وأذن في الناس بالحج فصعد عرفة ، فنادى : (ألا إن لله بيتا فحجوه) ، فبلغ الله دعوته كيف شاء ، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وأوجبه على المستطيعين .

فأما (لبيك) : فسيبويه ، وأكثر النحويين على أنه : مثنى [ ص: 267 ] للتكثير والمبالغة ، ومعناه : إجابة بعد إجابة ، وليس على حقيقة التثنية ، وذهب يونس بن حبيب : إلى أنها اسم مفرد ، وليس بمثنى ، وإن ألفه انقلبت ياء لاتصالها بالضمير على حد : لدي .

واختلفوا في اشتقاقها ، فقيل : هي مأخوذة من قولهم : داري تلب دارك ; أي : تواجهها ، فكان الملبي قد توجه لمن دعاه وقصده . وقيل من قولهم: امرأة لبة : إذا كانت محبة لولدها ، عاطفة عليه . وقيل : من لب الشيء وهو خالصه . وقيل : من لب بالمكان ، وألب ; أي : أقام ولزم . قال ابن الأنباري : وإلى هذا كان يذهب الخليل . وقيل : من الإلباب ، وهو : القرب ، قاله الحربي . وقيل : من قولهم : أنا ملب بين يديك ; أي : خاضع . وتكرارها ثلاثا : توكيد .

وقوله : ( إن الحمد ، والنعمة لك ) ; رويناها بكسر (إن) وفتحها ، وهما روايتان مشهورتان عند أهل التقييد واللسان . قال الخطابي : الفتح رواية العامة . قال ثعلب : من فتح خص ، ومن كسر عم . والاختيار : الكسر ; لأن الذي يكسر يذهب إلى أن المعنى : إن الحمد على كل حال . والذي يفتح إلى أن المعنى : لبيك لهذا السبب ; يعني : أن لبيك عمل فيها بواسطة لام الجر السببية ، ثم حذف الجر لدلالة الكلام .

والكلام على سعديك مثله على لبيك إلا في الاشتقاق . ومعناها : ساعدت يا رب طاعتك مساعدة بعد مساعدة . قال ابن الأنباري : معناه : أسعدك الله إسعادا بعد إسعاد .

وقوله : (والخير بيديك) ; قد تقدم الكلام عليه . و (الرغباء) بفتح الراء والمد ، وبضم الراء والقصر : هي الرغبة ، ونظيرها : العلياء ، والعليا . والنعماء والنعمى ، ويعني بـ (العمل) : أعمال الطاعات . أي : لا نعمل إلا لله وحده .

[ ص: 268 ] وقوله : ( كان - صلى الله عليه وسلم - يركع بذي الحليفة ركعتين ) ; هاتان الركعتان للإحرام ، ولذلك قلنا: إن من مشروعية الإحرام أن يكون بعد صلاة ، فإن كانت للإحرام فهو أفضل ، وإن أحرم بعد فريضة جاز . واستحب الحسن : أن يحرم بعد فريضة ; لأنه روي : أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح ، والأول أظهر . وإحرامه بعد صلاة الفرض أفضل منه بغير صلاة جملة ، ولا دم على من أحرم بغير صلاة عند مالك .

وقوله : ( ثم استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات ) ; إشارة إلى التلبية المتقدمة ، وهذه الحالة هي التي عبر عنها في الروايات الأخرى ; بانبعاث الراحلة ، لا أنها أخذت في المشي . وبذلك أخذ مالك ، وأكثر العلماء : أنه يهل إذا استوت به راحلته إن كان راكبا ، ويتوجه بعد ذلك . وإن كان راجلا فحين يأخذ في المشي . وقال الشافعي : كذلك في الراكب إلا أنه ينتظرها [ ص: 269 ] حتى تنبعث . وقال أبو حنيفة : إذا سلم من الصلاة أهل . على ما جاء في حديث ابن عباس : أنه أحرم من المسجد بعد أن صلى فيه ، وأوجبه في مجلسه . ولا شك في أن الأحسن في لفظ التلبية تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتجوز الزيادة عليها ، كما زاد ابن عمر ، ولو لبى ملب بغير تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه ، وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي منهم الملبي ، فلا ينكر عليه ، ويهل المهل ، فلا ينكر عليه ، على ما يأتي في حديث جابر .

التالي السابق


الخدمات العلمية