المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2118 [ 1082 ] وعنها ، قالت : منا من أهل بالحج مفردا ، ومنا من قرن ، ومنا من تمتع .

رواه البخاري (1562)، ومسلم (1211) (124)، وأبو داود (1779) .


(14) ومن باب: أنواع الإحرام

قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ) ; هذا يقضي : بأن أنواع الإحرام ثلاثة ، وأن المكلف مخير في أيها أحب ; وإنما خلاف العلماء في الأفضل من تلك الأنواع :

فذهب مالك وأبو ثور : إلى أن إفراد الحج أفضل ، وهو أحد قولي الشافعي .

وقال أبو حنيفة ، والثوري : القران أفضل .

[ ص: 309 ] وقال أحمد ، وإسحاق ، والشافعي - في القول الآخر - ، وأهل الظاهر : إن التمتع أفضل .

وسبب اختلافهم : اختلاف الروايات في إحرام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فروت عائشة ، وجابر بن عبد الله ، وأبو موسى ، وابن عمر رضي الله عنهم : أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج . وروى أنس ، وعمران بن حصين ، والبراء بن عازب ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم : أنه قرن الحج والعمرة . وروى ابن عمر : أنه تمتع .

فلما تعارضت هذه الروايات الصحيحة ; صار كل فريق إلى ما هو الأرجح عنده ، فما اعتضد به لمالك : أن عائشة أعلم بدخلة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غيرها ; لملازمتها له ، ولبحثها وجدها في طلب ذلك . وكذلك جابر : هو أحفظ الناس لحديث حجته - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن الإفراد سلم عما يجبر بالدم ; فخلاف التمتع والقران ; إذ كل واحد منهما يجبر ما يقع فيهما من النقص بالدم . ومما اعتضد به لمن قال : إن القران أفضل : أن أنسا خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده من تحقيق ذلك ما ليس عند غيره ; إذ قد نقل لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (لبيك عمرة وحجا) . وفي حديث البراء الذي خرجه النسائي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي [ ص: 310 ] رضي الله عنه - حين سأله عن إحرامه ، فقال له : (كيف صنعت ؟) فقال : أهللت بإهلالك ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (إني سقت الهدي وقرنت) ; وهذا نص رافع للإشكال . وفي البخاري عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول : (أتاني الليلة آت من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة) .

وأما رواية ابن عمر في التمتع فلا يعول عليها لوجهين :

أحدهما : أنه قد اضطرب قوله : فروى بكر بن عبد الله عنه : أنه قال : لبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج وحده .

وثانيهما : أن الرواية التي قال فيها ابن عمر : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج ، قال في أثنائها ما يدل على أنه سمى الإرداف تمتعا . وسيأتي تحقيق ذلك . والذي يظهر لي : أن روايات القران أرجح ; لأن رواتها نقلوا ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإخباره عن نفسه وعن نيته ، وغيرهم ليس كذلك ، ولأن رواية القران يتأتى الجمع بينها وبين رواية الإفراد : بأن يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مردفا ، فيمكن أن يقال : إن من روى : أنه أفرد ; إنما سمع إحرامه بالحج ، ولم يسمع إردافه بالعمرة . ومن روى : أنه قرن ، حقق الأمرين فنقلهما ، والله أعلم .

وقد استهول بعض القاصرين هذا الخلاف الواقع في إحرامه - صلى الله عليه وسلم - ، وقدره [ ص: 311 ] مطعنا على الشريعة زاعما : أن العادة قاضية بتواتره ، فلا يختلف فيه ، ولم يوجد ذلك إلا بالآحاد ، فيقطع بكذبها . وهذا لا يلتفت إليه . وإن ما تقتضي العادة تواتره تواتر وعلم ، وهو : أنه - صلى الله عليه وسلم - حج وأحرم من ذي الحليفة ، وأنه تمادى في إحرامه إلى أن أكمل مناسك حجه ، وحل من إحرامه عند طواف الإفاضة . وهذا كله معلوم بالنقل المتواتر الذي اشترك الجفلى فيه ; لأنه هو المحسوس لهم . وأما إحرامه فليس من الأمور التي يجب تواترها ; لأنه راجع إلى نيته ، ولا يطلع عليها إلا بالإخبار عنها ، أو بالنظر في الأحوال التي تدل عليها .

ولما كان ذلك ; فمنهم من نقل لفظه ; لأنه سمعه منه في وقت ما ، ومنهم من حدس وسبر ; فأخبر عما وقع له ، وحصل في ظنه . ولذلك قلنا : إن رواية من روى القران أولى ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية