المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2117 (15) باب

ما جاء في فسخ الحج في العمرة

وأن ذلك كان خاصا بهم

[ 1083 ] عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مهلين بالحج في أشهر الحج ، وفي حرم الحج وليالي الحج ، حتى نزلنا بسرف ، فخرج إلى أصحابه فقال: من لم يكن معه منكم هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا. فمنهم الآخذ بها ، والتارك لها ممن لم يكن معه هدي ، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فكان معه الهدي ، ومع رجال من أصحابه لهم قوة ، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي ، فقال: ما يبكيك؟ قلت: سمعت كلامك مع أصحابك فسمعت بالعمرة . قال: وما لك؟ قلت: لا أصلي ، قال: فلا يضرك فكوني في حجك فعسى الله أن يرزقكيها ، وإنما أنت من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن . قالت: فخرجت في حجتي حتى نزلنا منى فتطهرت، ثم طفنا بالبيت ، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- المحصب ، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال: اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة، ثم لتطف بالبيت ، فإني أنتظركما هاهنا . قالت: فخرجنا فأهللت، ثم طفت بالبيت وبالصفا والمروة ، فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو في منزله من جوف الليل ، فقال: هل فرغت؟ قلت: نعم . فأذن في أصحابه بالرحيل ، فخرج فمر بالبيت ، فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة .

رواه البخاري (1560)، ومسلم (1211) (123) .


(15) ومن باب: ما جاء في فسخ الحج في العمرة

قول عائشة -رضي الله عنها- : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أشهر الحج ، وفي حرم الحج ، وليالي الحج ) ; لم يختلف في أن أول أشهر الحج شوال ، واختلف [ ص: 312 ] في آخرها : فقال مالك : آخرها آخر ذي الحجة ، وبه قال ابن عباس ، وابن عمر . وذهب عامة العلماء : إلى أن آخرها عاشر ذي الحجة ، وبه قال مالك أيضا . وروي عن ابن عباس وابن عمر مثله . وقال الشافعي : شهران وتسعة أيام من ذي الحجة . وروي عن مالك : آخر ذلك أيام التشريق .

وسبب الخلاف : هل يعتبر مسمى الأشهر - وهي ثلاثة - أو يعتبر الزمان الذي يفرغ فيه عمل الحج - وهو أيام التشريق - أو معظم أركان الحج - وهو يوم عرفة - أو يوم النحر ; وهو اليوم الذي يتأتى فيه إيقاع طواف الإفاضة . وأبعدها قول من قال : التاسع .

وفائدة هذا الخلاف تعلق الدم بمن أخر طواف الإفاضة عن الزمان الذي هو عنده آخر الأشهر . وبسط الفروع في كتب الفقه .

و ( حرم الحج ) : أزمان شهوره . و ( ليالي الحج ) : ليالي أيام شهوره. وكررت ذلك تفخيما وتعظيما ، ولذلك أتت بالظاهر مكان المضمر ، وصار هذا كقولهم :


لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

وقوله : ( فمن أحب أن يجعلها عمرة فليفعل ) ; ظاهره التخيير ، ولذلك كان منهم الآخذ ، ومنهم التارك . لكن بعد هذا ظهر منه - صلى الله عليه وسلم - عزم على الأخذ بفسخ الحج في العمرة لما غضب ودخل على عائشة ، فقالت له : من أغضبك أغضبه الله . فقال : ( أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ) . وعند هذا أخذ في ذلك كل من أحرم بالحج ، ولم يكن ساق هديا، وقالوا : فحللنا ، وسمعنا ، وأطعنا .

[ ص: 313 ] وكان هذا التردد منهم : لأنهم ما كانوا يرون العمرة جائزة في أشهر الحج ، وكانوا يقولون : إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور . فبين جواز ذلك لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله عند الإحرام بلفظ الإباحة ، ثم إنه لما رأى أكثر الناس قد أحرم بالحج مجتنبا للعمرة أمرهم بالتحلل بالعمرة عند قدومهم مكة ، تأنيسا لهم ، فلما رأى استمرارهم على ذلك عزم عليهم في ذلك ، فامتثلوا ، فتبين بقوله ، ويحملهم على ذلك الفعل : أن الإحرام بالعمرة في أشهر الحج جائز ، ولما كان ذلك التحلل لذلك المعنى فهم الصحابة أن ذلك مخصوص بهم ، ولا يجوز لغيرهم ممن أحرم بالحج أن يحل بعمل العمرة ، ولقول الله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله كما قال عمر رضي الله عنه : إن القرآن نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله . ولذلك قال أبو ذر : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة ; يعني بذلك : تمتعهم بتحللهم من حجهم بعمل العمرة . وقد ذهب بعض أهل الظاهر : إلى أن ذلك يجوز لآخر الدهر . والصحيح الأول ; لما سبق .

وقولها : ( فسمعت بالعمرة ) ; كذا لجمهور رواة مسلم . وفي كتاب ابن سعيد : (فمنعت العمرة) ، وهو الصواب .

وقوله : ( فعسى الله أن يرزقكيها ) ; أي : العمرة التي أردفت عليها الحجة ، ولم تفرغ من عملها ، فرجا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرز الله لها أجر عمرتها وإن لم تعمل لها عملا خاصا ، كما قال لها : (يسعك طوافك لحجك وعمرتك) .

[ ص: 314 ] وقولها : ( حتى نزلت منى ، فتطهرت ) يوم النحر ، كما قالت فيما تقدم .

وقولها : ( فطفنا بالبيت ) ; تعني : طواف الإفاضة .

وقولها : ( فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ، ثم خرج إلى المدينة ) ; تعني به طواف الوداع .

ولا خلاف في أنه مستحب مرغب فيه مأمور به ، غير أن أبا حنيفة يوجبه . ومن سننه : أن يكون آخر عمل الحاج ، ويكون سفره بأثره ; حتى يكون آخر عهده بالبيت ; وهذا قول جمهور العلماء .

لكن رخص مالك في شراء بعض جهازه وطعامه بعد طوافه . وقاله الشافعي ; إذا اشترى ذلك في طريقه . وإقامة يوم وليلة بعده طول عند مالك . وقيل : ليس بطول . وأجاز أبو حنيفة إقامته بعده ما شاء . وغيرهم لا يجيز الإقامة بعده لا قليلا ولا كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية