المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2137 (17) باب

في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -

[ 1094 ] عن جعفر بن محمد، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله ، فسأل عن القوم ، حتى انتهى إلي ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين فأهوى بيده إلى رأسي ، فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي ، وأنا يومئذ غلام شاب فقال: مرحبا بك يا ابن أخي ، سل عما شئت ، فسألته وهو أعمى ، وحضر وقت الصلاة ، فقام في ساجة ملتحفا بها ، كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها ، ورداؤه إلى جنبه على المشجب ، فصلى بنا ، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: بيده ، فعقد تسعا ، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حاج ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم- ويعمل مثل عمله ، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عليهم شيئا منه ، ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تلبيته ، قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا .

- وفي رواية : لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ، ثم مشى يمينه ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا - ثم نفذ إلى مقام إبراهيم ، فقرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فجعل المقام بينه وبين البيت ، فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في الركعتين : قل هو الله أحد و قل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ : إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا فرقي عليه ، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة ، فوحد الله عز وجل وكبره ، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ثم دعا بين ذلك . قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي سعى ، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا ، حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال: إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، ولجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي ، فليحل وليجعلها عمرة ، فقام سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد ، فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال: دخلت العمرة في الحج ، مرتين : لا بل لأبد أبد . وقدم علي من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم- فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا ، واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت: إن أبي أمرني بهذا ، قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- محرشا على فاطمة ، للذي صنعت ، مستفتيا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيما ذكرت عنه . فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها. فقال: صدقت صدقت ، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك. قال: فإن معي الهدي فلا تحل. قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم- مائة ، قال: فحل الناس كلهم وقصروا ، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج ، وركب النبي - صلى الله عليه وسلم- فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة . فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية. فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء ، فرحلت له ، فأتى بطن الوادي ، فخطب الناس، وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعا في بني سعد ، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ، فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة ، يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد ، ثلاث مرات ، ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا ، حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : أيها الناس ، السكينة السكينة . كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا ، حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد، وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعاه وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا . فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الشعر ، وأبيض وسيما ، فلما دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرت ظعن يجرين ، فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل ، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر ، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل ، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر. حتى أتى بطن محسر ، فحرك قليلا ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها ، حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر ، فطبخت فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم ، فقال: انزعوا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، فناولوه دلوا فشرب منه .


زاد في رواية: وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري ، فلما أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من المزدلفة بالمشعر الحرام ، لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ، ويكون منزله ثم ، فأجاز ولم يعرض له ، حتى أتى عرفات فنزل.

وفي أخرى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: نحرت هاهنا ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت هاهنا ، وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا ، وجمع كلها موقف .

رواه أحمد (3 \ 217)، والبخاري (1557)، ومسلم (1218) (147 و 148 و 149 و 150 )، والنسائي (5 \ 202) .


(17) ومن باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -

حديث جابر هذا فيه أحكام كثيرة ، وأبواب من الفقه غزيرة ، وقد استخرجها الأئمة ، وصنفوها ، وعددوها حتى بلغوها إلى نيف على مائة وخمسين حكما ، وإذا تتبع وجد فيه أكثر من ذلك ، لكن أكثرها لا يخفى على فطن ، فلنعمد إلى بيان ما يشكل .

فمن ذلك : سؤال جابر عن القوم حين دخلوا عليه ; إنما كان ذلك لأنه كان قد عمي . وفعل جابر ذلك الفعل به إنما كان تأنيسا له ومبالغة في إكرامه على ما يفعل بالصغار ، وعلى ذلك نبه بقوله : ( وأنا يومئذ غلام شاب ) .

[ ص: 322 ] وقوله : ( مرحبا بك ) ; كلمة ترحيب وإكرام . وقد تقدم تفسيرها .

وقوله : ( وقام في ساجة ملتحفا بها ) ; الساجة : ثوب كالطيلسان ، والمشجب : أعواد توضع عليها الثياب ومتاع البيت .

وقوله : ( مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين لم يحج ) يعني في المدينة . وأما بمكة فحج واحدة باتفاق ، واختلف في ثانية : هل حجها أم لا ؟

وقوله لأسماء : ( استثفري ) ; أي : اجعلي لنفسك كثفر الدابة ، ليمتنع سيلان الدم .

و ( القصواء ) : اسم ناقته - صلى الله عليه وسلم - بالمد والهمز . ووقع عند العذري : القصوى ; بضم القاف والقصر . وهو خطأ في هذا الموضع . قال ابن قتيبة : كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - نوق ; منها : القصواء ، والجدعاء ، والعضباء . قال غيره : والخرماء ، ومخضرمة . وقال : هي كلها أسماء لناقة واحدة . قال الحربي : القصواء : التي قطع طرف أذنها . والجدع ، والخرم ، والقصو : قطع طرف أذنها . والجدع أكثر منه . قال [ ص: 323 ] الأصمعي : كل قطع في الأذن جدع ، فإن جاوز الربع ; فهي عضباء . والمخضرم : المقطوع الأذنين ، فإذا اصطلمتا ; فهي صلماء . وقال أبو عبيدة : القصواء : المقطوعة الأذن عرضا . والمخضرمة : المستأصلة . والعضباء : النصف فما فوقه .

وقوله : فنظرت إلى مد بصري من راكب وماش ) ; لا خلاف في جواز الركوب والمشي في الحج ، واختلف في الأفضل منهما :

فذهب مالك ، والشافعي في آخرين : إلى أن الركوب أفضل اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكثرة النفقة ، ولتعظيم شعائر الحج بأبهة الركوب .

وذهب غيرهم : إلى أن المشي أفضل ; لما فيه من المشقة على النفس .

ولا خلاف في : أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل ، واختلفوا في الطواف والسعي : والركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل ، للاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد تقدم الكلام على التلبية .

وقول جابر : ( لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ) ; هذا يحتمل أن يخبر به عن حالهم الأول قبل الإحرام ، فإنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، كما تقدم . فلما كان عند الإحرام بين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (من أراد أن [ ص: 324 ] يهل بحج فليفعل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل) ، فارتفع ذلك الوهم الواقع لهم ، كما سيأتي هذا إن شاء الله تعالى .

و ( يستلم الركن ) أي : يلمس الحجر الأسود بفيه ، وسمي الحجر : ركنا ; لأنه في الركن . و ( الرمل ) : تقريب بين المشي والسير . وبفعله - صلى الله عليه وسلم - هذا تقرر أن الرمل في الأشواط الثلاثة سنة راتبة ، وإن كان أصل مشروعيته في عمرة القضاء ليرى أهل مكة قوتهم، وجلدهم ، كما في حديث ابن عباس على ما يأتي ; لكن لما فعله في حجة الوداع مع زوال ذلك المعنى تحقق أنه تعبد ، وأنه سنة . وهذا الطواف المذكور هنا ; هو المسمى بطواف القدوم وهو سنة مؤكدة يجب بتركه دم على غير المراهق. وهو قول أبي ثور ، وأحد قولي مالك . وقيل : لا يجب بتركه دم ، ويجزئ عنه طواف الإفاضة ، وهو قول الشافعي ، وأصحاب الرأي . ولا يخاطب بطواف القدوم مكي .

والأطواف الثلاثة : هذا ، وطواف الإفاضة ، ويسمى : طواف الزيارة ; لأن الطائف يزور البيت من منى ، فيطوفه . وقد أجاز الحنفي وغيره هذه التسمية ، وكره مالك أن يقال : طواف الزيارة . وطواف الوداع ، وهو الذي يفعل عند الصدر من مكة . ولا دم على تاركه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .

وقوله : ( وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ) يعني : إنه إنما كان يفعل من أفعال الحج بحسب ما ينزل عليه به الوحي ، فيفهمه هو ويبينه للناس بفعله ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (خذوا عني مناسككم) ، فكانوا كما قال جابر : إذا عمل شيئا [ ص: 325 ] اقتدوا به فيه ، وعملوه على نحو ما عمل .

وقوله : ( فأهل بالتوحيد ) يعني : بقوله : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك . بخلاف ما كانت تلبي الجاهلية ; إذ كانت تشرك بالله ، فتقول في تلبيتها : إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . وقد تقدم القول على التلبية .

وقوله : ( وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ) ; يعني : أنهم لم يلتزموا هذه التلبية الخاصة التي لبى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; إذ فهموا : أنها ليست متعينة ، فإنه قد ترك - صلى الله عليه وسلم - كل أحد على ما تيسر له من ألفاظها ، ومع هذا فلا بد أن يأتي الملبي ما يقال عليه تلبية لسانا . ولا يجزئ منها التحميد ، ولا التكبير ، ولا غيره ، عند مالك .

وقوله : ( ثم نفذ إلى مقام إبراهيم ) يعني : أنه صار إليه بعد أن فرغ من طوافه . والرواية هنا : ( واتخذوا بكسر الخاء على الأمر ، وهي قراءة الكوفيين ، وأبي عمرو ، وهي أمر . وعلى قراءة الفتح ، وهي قراءة الباقين ، هو خبر عن الملتزمين لاستقبال الكعبة .

واختلف في مقام إبراهيم ما هو ؟ فقال ابن عباس : هو مواقفه كلها . وقال الشعبي وعطاء : هو عرفة ، والمزدلفة ، والجمار . وقال مجاهد : الحرم . وقال جابر وقتادة : الحجر الذي قام عليه للبناء ، فكان يرتفع به كلما ارتفع البناء . ويرفع هذا الخلاف ، ويبين المراد بالمقام قوله : فجعل المقام [ ص: 326 ] بينه وبين الكعبة ; وهذا يدل على أنه هو الموضع المعروف هناك ; الذي يستقبل باب البيت .

و ( مصلى ) أي : موضع صلاة ودعاء . وهاتان الركعتان هما المسنونتان للطواف . وهما سنتان مؤكدتان ، يجب بتركهما دم عند مالك . ويدركهما ما لم يخرج من الحرم . فإن خرج ولم يركع ; فهل يعيد الطواف لهما ، أم لا ؟ قولان . فإذا قلنا : لا يعيد الطواف لهما فقد وجب الدم ، وكذلك إذا رجع إلى بلاده وجب الدم . وغير مالك لا يرى فيهما دما ، ويركعهما متى ذكرهما .

وقوله : ( ثم رجع إلى الركن واستلمه ) يعني : بعد الصلاة ، وهذا يدل على شدة العناية والتهمم باستلام الحجر .

وقوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله الصفا : جمع صفاة ، قال :


لها كفل كصفاة المسيل

أو واحد ، والجمع : صفى . قال :


.......     مواقع الطير من الصفي

[ ص: 327 ] وهو حجر أملس ، وهو الصفوان . و ( المروة ) من الحجارة ما لان وصغر . قال :


كأن صليل المروحين تشده     صليل زيوف ينتقدن بعبقرا

وقال آخر :


ويوالي الأرض خفا ذابلا     فإذا ما صادف المرو رضخ

وهما هنا اسمان لصفحين معلومين . وقيل : سميا بذلك لجلوس الصفي وامرأته عليهما .

و ( الشعائر ) : المعالم التي للحج ، جمع شعيرة ، سميت بذلك لما تشعر به تلك المواضع من أعمال الحج ; أي : تعلم ، أو لما يستشعر هناك من تعظيم الله تعالى ، والقيام بوظائفه .

والطواف بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة عند جمهور العلماء ، ما خلا أبا حنيفة ; فإنه لم يره فيهما واجبا في الحج . وسيأتي استيفاء الكلام عليهما إن شاء الله تعالى.

وقوله : ( أبدأ بما بدأ الله به) فبدأ بالصفا فرقى عليها حتى رأى البيت فاستقبله ، هكذا المشروعية المستحبة مهما أمكنت . ولذلك يمنع الابتداء بالمروة ، فإن فعل ألغي ذلك الشوط عند الجمهور . وقال عطاء : إن جهل ذلك أجزأه .

[ ص: 328 ] ويكره الجلوس على الصفا والمروة ، والدعاء عليهما كذلك ، ويؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (أبدأ بما بدأ الله به) : أن الذي يقدم ليعطف عليه أوكد من المعطوف في مقصود المقدم بوجه ما ، كما يفهم من قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ومن قوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا فإن المعطوف عليه في هذه المواضع مقدم لمزية له على المعطوف . ومثل هذا كثير ، وله موضع آخر يعرف به. ولا يفهم منه : أن الواو ترتب ; لأنه إنما أخذه بالابتداء لا بالترتيب . وقد تقدم القول على تحللهم بعمل العمرة .

وقول سراقة بن جعشم : ( ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فقال : دخلت العمرة في الحج ، لا ، بل لأبد أبد ) ظاهر هذا السؤال والجواب : أنهما في فسخ الحج في العمرة ، فيقتضي أن ذلك جائز مطلقا مؤبدا ، وليس مخصوصا بالصحابة . وبهذا استدل من قال بجواز ذلك مطلقا ، وهم أهل الظاهر . وقد صرف هذا الظاهر الجمهور إلى : أن السؤال إنما كان عن فعل العمرة في أشهر الحج ، فأجاب بذلك . وعلى هذا : فيكون معنى ( دخلت العمرة في الحج ) ; أي : في أشهر الحج . وقيل : [ ص: 329 ] دخلت العمرة بالحج ; أي : في حق القارن . والذي حملهم على هذه التأويلات ما تقدم من أن الأصل وجوب الإتمام لما دخل فيه من الحج والعمرة ، وأن الصحابة قد قالوا : إن ذلك كان مخصوصا بهم كما تقدم ، والله تعالى أعلم .

وقوله : ( حتى انصبت قدماه في بطن الوادي ) ; هكذا صحت روايتي فيه . وقال القاضي عياض : حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي ، بـ (إذا) وقال : هكذا في جميع النسخ الواصلة إلينا من مسلم ، ليس في أصول شيوخنا فيها اختلاف ، وفيه وهم ، وإسقاط لفظة : (رمل) ، وبها يتم الكلام ، وكذا جاء في غير مسلم : (حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي رمل .

قلت : هذا الوهم الذي أبداه لازم على روايته هو ; إذ رواه بـ (إذا) فيحتاج إلى الجواب ، فأبداه . وأما على ما رويته أنا من إسقاط : (إذا) فلا يحتاج إلى تقدير ذلك ; إذ ليس في الكلام ما يستلزمه . فتأمله .

و ( الرمل ) : سنة في السعي في بطن الوادي ، واختلف فيمن تركه ; هل يلزمه دم أم لا ؟ واختلف في تعليل الرمل ، وفي سبب اختصاصه بذلك المحل ; فقيل : فعله - صلى الله عليه وسلم - هناك ليرى المشركون جلده وجلد أصحابه.

قلت : وهذا إنما كان في عمرة القضاء ، غير أنه دام على فعله في حجته ، فدل على أنه سنة راتبة . وقيل : بل اقتدى فيه بهاجر في سعيها لطلب الماء لولدها ، على ما جاء في الحديث .

ويقال للطواف بينهما : طواف وسعي ، ولا يقال : شوط ، ولا دور ، وقد كرهه جماعة من السلف والشافعي .

وقوله : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، ولجعلتها عمرة ) هذا يرد على من قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم متمتعا ، ويدل على أنه إنما [ ص: 330 ] أحرم بما أحرم به مختارا له ، وإنه خير في أنواع الإحرام الثلاثة ، ولم يعين له واحد فيها ; فأمر به . لكنه اختار القران على ما تقدم ، ثم إنه لما أمر أصحابه بالتحلل بعمل العمرة ، فتوقفوا لأجل أنه لم يتحلل هو ; أخبرهم بسبب امتناعه ، وهو : سوقه الهدي ، ثم أخبرهم : أنه ظهر له في ذلك الوقت ما لم يظهر له قبل ذلك من المصلحة التي اقتضت أن أباح لهم فسخ الحج ، وأنه لو ظهر له من ذلك قبل إحرامه مما ظهر له بعد ; لأحرم بعمرة حتى تطيب قلوبهم ، وتسكن نفرتهم من إيقاع العمرة في أشهر الحج .

وإنكار علي على فاطمة تحللها : إنما كان لأنه علم أنها أحرمت بالحج ، وأنها تحللت منه قبل إتمامه ، وإنما أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحلل ; لأنها لم تسق الهدي ، كما أمر غيرها ممن لم يسق الهدي .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه : (بم أهللت؟) يدل على أنه لم يكن عنده خبر بما به يحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يتقدم له فيه عهد منه ، وأن عليا رضي الله عنه هو الذي ابتدأ إحرامه محالا به على إحرام النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير تعيين حج ولا عمرة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أقره على ذلك ، فكان ذلك حجة على جواز الحوالة على إحرام الغير مطلقا إذا تحقق أنه أحرم ولا بد ، وبه قال الشافعي ، وأخذ منه جواز الإحرام من غير تعيين ، ثم بعد ذلك يعين ، وسيأتي .

وقوله : ( فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج ) يوم التروية : هو اليوم الثامن من ذي الحجة ، سمي بذلك : لأن قريشا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم ، فيروون منه .

و ( توجهوا ) : قصدوا ، وأخذوا في الأهبة [ ص: 331 ] إلى منى ، لا أنهم توجهوا بمشيهم إلى منى ، فأحرموا منها ، فإن ذلك باطل بإجماع العلماء . على أنهم أحرموا من مكة . والمستحب عند أكثر العلماء فيمن أحرم من مكة بالحج أن يكون إحرامه من مكة متصلا بسيره إلى منى يوم التروية ; أخذا بظاهر هذا الحديث . واستحب بعضهم أن يكون ذلك أول هلال ذي الحجة ليلحقهم من الشعث إلى وقت الحج ما لحق غيرهم .

والقولان عن مالك ، وقد تقدم في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - .

وقوله : وركب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى منى ، فصلى بها الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والفجر ; يعني : أنه صلى كل صلاة في وقتها ، غير مجموعة ، كما قد توهمه بعضهم ، ممن لا يعرف . وإنما ذكر عدد الصلوات الخمس هنا ليعلم الوقت الذي وصل فيه إلى منى ، والوقت الذي خرج فيه منها إلى عرفة ، ولذلك قال مالك باستحباب دخوله إلى منى ، وخروجه منها في ذينك الوقتين المذكورين . وقد استحب جميع العلماء الخروج إلى منى يوم التروية ، والمبيت بها ، والغدو منها إلى عرفة ، ولا حرج في ترك ذلك ، والخروج من مكة إلى عرفة ، ولا دم .

و ( نمرة ) : هو موضع بعرفة ، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم ، على يمين الخارج من مأزمي منى إلى الموقف . و ( نمرة ) أيضا : موضع آخر بقديد .

وفيه دليل : على جواز استظلال المحرم في القباب والأخبية ، ولا خلاف فيه . واختلف في استظلال الراكب في حال وقوفه ، فكرهه مالك ، وأهل المدينة ، وأحمد بن حنبل . وأجاز ذلك غيرهم . وعليه عند مالك الفدية إذا انتفع به ، وكذلك استظلاله عنده في حال سيره . وكذلك لو كان نازلا بالأرض أو راجلا فاستظل بما يقرب من رأسه . وسيأتي الكلام عليه .

[ ص: 332 ] وقوله : ( ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام ) ; يعني : كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ; فإنها كانت تقف بالمشعر الحرام بدل وقوف الناس بعرفة ، وتقول : نحن أهل الحرم ، لا نخرج منه إلى الحل . وكان هذا من جملة ما ابتدعت وغيرت من شريعة إبراهيم وسنته في الحج .

وقوله : ( فرحلت له القصواء ) أي : وضع عليها الرحل .

و ( القصواء ) : ناقته ، وقد تقدم ذكرها . و ( زاغت الشمس ) : مالت. و ( بطن الوادي ) : المنخفض منه ; ويعني به : وادي عرنة المعروف هناك ، وهو موضع متسع جامع . ولذلك خصه بخطبته ، والله تعالى أعلم .

وقوله : ( فخطب الناس ) دليل لمالك وجميع المدنيين والمغاربة ; إذ قالوا : ليوم عرفة خطبة قبل الصلاة ، يذكر الناس فيها ، ويعلمهم ما يستقبلون من الوقوف وغيره من المناسك . وهو أيضا حجة على الشافعي وأبي حنيفة ; إذ قالا : ليس عرفة بموضع خطبة ، وهو قول العراقيين من أصحابنا .

وخطب الحج عندنا ثلاثة :

يوم التروية بعد صلاة الظهر في المسجد الحرام ، يذكر الناس ، ويعلمهم أحكام إحرامهم ، ويحضهم على الخروج إلى منى .

والثانية : بعرفة قبل الصلاة بإجماع من القائلين بها . وأجمعوا : على أنه لو صلى ولم يخطب فصلاته جائزة .

والثالثة : بعد يوم النحر ، يعلمهم فيها أحكام الرمي والتعجيل .

[ ص: 333 ] وقوله : ( ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ) ; يعني به : الأمور التي أحدثوها ، والشرائع التي كانوا أشرعوها في الحج وغيره. وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم - : (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) .

وقوله : ( وربا الجاهلية موضوع ) ; الربا : الزيادة ، والكثرة لغة ، ثم إنهم كانت لهم بيوعات يسمونها : بيع الربا . منها : أنهم كانوا إذا حل أجل الدين يقول الغريم لرب الدين : أنظرني وأزيدك . فينظره إلى وقت آخر على زيادة مقررة ، فإذا حل ذلك الوقت الآخر قال له أيضا كذلك ، وربما يؤدي ذلك إلى استئصال مال الغريم نزر يسير كان أخذه أول مرة . فأبطل الله ذلك ، وحرمه ، وتوعد عليه بقوله تعالى : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس الآيات. وردهم فيه إلى رؤوس أموالهم ، وبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرآنا وسنة ، ووعظ الناس ، وذكرهم بذلك في ذلك الموطن مبالغة في التبليغ ، وبدأ - صلى الله عليه وسلم - بربا العباس لخصوصيته بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليقتدي الناس به قولا وفعلا ; فيضعون عن غرمائهم ما كان من ذلك .

وقوله : ( فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ) أي : بأن الله ائتمنكم عليهن ، فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها ، والقيام بمصالحها [ ص: 334 ] الدينية والدنيوية . وجاء في حديث آخر : (فإنهن عوان عندكم) جمع : عانية ، وهي الأسيرة . والعاني : الأسير ، وذلك أنها محبوسة لحق الزوج ، وله التصرف فيها ، والسلطنة عليها .

وقوله : ( واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) قيل : إن كلمة الله كلمة : لا إله إلا الله ، ومعنى هذا عند هذا القائل : إنه لولا الإسلام للزوج لما حلت له . وقيل : هي كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج. وهي الصيغ التي ينعقد بها النكاح ، وأشبه من هذه الأقوال : أنها عبارة عن حكمه تعالى بحلية النكاح ، وجوازه ، وبيان شروطه ، فإن حكم الله كلامه المتوجه للمحكوم عليه على جهة الاقتضاء أو التخيير على ما قدمناه في الأصول.

وقوله : ( ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ) معنى هذا : لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه ، ويدخل في ذلك الرجال والنساء ، الأقرباء والأجانب . وقد بينا هذا المعنى فيما تقدم ، ولا يفهم من هذا الكلام : أنه النهي عن الزنى ، فإن ذلك يحرم مع من يكرهه الزوج ومع من لا يكرهه . وقد قال : ( أحدا تكرهونه ) ثم إنها تكون استعارة بعيدة . وأيضا : فإن الزنى يترتب عليه الحد .

وقوله : ( فاضربوهن ضربا غير مبرح ) ليس بالحد ، وإنما هو تأديب . والمبرح : الشديد الشاق . والبرح : المشقة الشديدة ، وفيه إباحة تأديب الرجل زوجته على وجه الرفق .

وقوله : ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) ; أي : بما يعرف من [ ص: 335 ] حاله وحالها ، وهو حجة لمالك ; حيث يقول : إن النفقات على الزوجات غير مقدرات ، وإنما ذلك بالنظر إلى أحوالهم وأحوالهن .

وقوله : ( فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ، وينكبها إلى الناس ) هذه الإشارة منه - صلى الله عليه وسلم - إما إلى السماء ; لأنها قبلة الدعاء ، وإما لعلو الله المعنوي ; لأن الله تعالى لا يحويه مكان ، ولا يختص بجهة. وقد بين ذلك قوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم

و ( ينكبها ) : روايتي في هذه اللفظة ، وتقييدي على من أعتمده من الأئمة المقيدين ; بضم الياء ، وفتح النون ، وكسر الكاف مشددة ، وضم الباء بواحدة ; أي : يعدلها إلى الناس ، وقد رويت : (ينكبها) مفتوحة الياء ، ساكنة النون ، وبضم الكاف ; ومعناه : يقلبها ، وهو قريب من الأول ، وقد رويت : (ينكتها) باثنتين فوق ، وهي أبعدها .

وقوله بعد الفراغ من الخطبة : (ثم أذن ، ثم أقام) دليل على تقديم الخطبة على الصلاة ، وعلى أن الأذان بعد الخطبة . وبه أخذ مالك في أحد أقواله ، فإنه روي عنه : أنه يؤذن بعد تمام الخطبة ، فيجلس الإمام على المنبر ، ويؤذن المؤذن .

وروي عنه أيضا : أنه يؤذن في آخر خطبة الإمام حتى يكون فراغ الإمام من الخطبة مع فراغ المؤذن من الأذان . وهو قول الشافعي . وروي عنه : أنه يؤذن لها إذا جلس بين الخطبتين . وقال أبو ثور : يؤذن المؤذن والإمام على المنبر قبل الخطبة ; كالجمعة . وروي أيضا مثله عن مالك .

وقوله : ( فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ) فيه دليل : على أن الجمع بين [ ص: 336 ] الصلاتين يكتفى فيه بأذان واحد للصلاتين ، وعلى أن كل صلاة منهما لا بد لها من إقامة . وهذا قول أحمد ، وأبي ثور ، وابن الماجشون ، والطحاوي . وقال مالك : يؤذن ويقيم لكل صلاة قياسا على سائر الصلوات . وهو مذهب عمر ، وابن مسعود رضي الله عنهما ، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف : إلى أذان واحد ، وإقامة واحدة. وقال الشافعي في أحد قوليه : بإقامتين دون أذان . وروي مثله عن القاسم ، وسالم . ومثله في كتاب ابن الجلاب . وقال الثوري : تجزئ إقامة واحدة لا أذان معها .

قلت : والصحيح الأول ; حسب ما دل عليه الحديث ، والجمع بعرفة والمزدلفة في ذلك سواء .

وقوله : ( ولم يصل بينهما شيئا ) أي : لم يدخل بينهما صلاة أخرى ، لا نفلا ولا غيره . وبهذا قال مالك وغيره . وقال ابن حبيب : يجوز أن يتنفل بينهما ، وليس بالبين . ولا خلاف في جواز الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة . وإنما اختلفوا فيمن فاته الجمع مع الإمام بعرفة . فالجمهور على أنه يجمع بينهما اتباعا لفعله - صلى الله عليه وسلم - . وقال الكوفيون : يصليهما من فاتتاه لوقتهما ، ولا يجوز الجمع إلا مع الإمام . ولم يختلف : أن من صلاهما في وقتهما أن صلاته جائزة إذا لم يكن إماما .

واختلفوا فيمن صلى قبل أن يأتي المزدلفة ، فذهب الكوفيون : إلى أنهما لا يجزيانه ، ويعيدهما ، وإن صلاهما بعد مغيب الشفق ، وقاله ابن حبيب . وقال مالك : لا يصليهما قبل المزدلفة إلا من عذر به ، أو بدابته ، ولا يجمع هذا بينهما حتى يغيب الشفق . وقال مالك : يصليهما لوقتهما . وقيل : تجزئه صلاتهما في وقتهما قبل المزدلفة ; كان إمام الحاج أو غيره ، وهو مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وقاله الشافعي ، والأوزاعي ، وأبو يوسف ، وأشهب من أصحابنا.

[ ص: 337 ] وسميت المزدلفة بذلك ; لاقتراب الناس بها إلى منى للإفاضة من عرفات ، والازدلاف : القرب ، يقال : ازدلف القوم ; إذا اقتربوا. وقال ثعلب : لأنها منزلة قربة لله تعالى . وقال الهروي : سميت بذلك : لازدلاف الناس بها . والازدلاف : الاجتماع . وقيل سميت بذلك : للنزول بها بالليل . وزلف الليل : ساعاته . وتسمى أيضا المزدلفة : بالمشعر ; لأنها من المشاعر ، وهي المعالم ، والصواب : أن المشعر موضع مخصوص من المزدلفة ، وهو الذي كانت الحمس تقف فيه ، ولا تتعداه ، ويكتفي بالوقوف فيه عن عرفة .

وسميت منى بذلك : لما يمنى فيها من الدماء ; أي : تراق. وقيل : لأن آدم تمنى الاجتماع مع حواء فيها .

وسميت عرفة بذلك : لأن جبريل عرف آدم ، فقال : عرفت عرفت؟ وقيل : لأن آدم تعرف فيه بحواء بعد إنزالهما إلى الأرض ، وهي المعرف . والتعريف : الوقوف بها .

وقوله : ( وجعل حبل المشاة بين يديه ) يريد : صفهم ومجتمعهم . وحبل الرمل : ما طال منه . وقيل : حبل المشاة : طريق الرجالة ، حيث يسلكون .

وقوله : ( وجعل بطن ناقته إلى الصخرات ) ; يعني - والله أعلم - أنه علا على الصخرات ناحية منها ، حتى كانت الصخرات تحاذي بطن ناقته .

وقوله : ( فلم يزل واقفا بعرفة حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا ) لا خلاف في أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج ، وأنه من بعد الزوال ، وأنه لا يجزئ قبله ، وأن وقوف الليل يجزئ . وأكثر العلماء : على أن وقوف النهار يجزئ إلا مالكا ، فإنه في معروف مذهبه كمن لم يقف ، ولا خلاف في أفضلية [ ص: 338 ] الجمع بين الوقوفين ليلا ونهارا . وفيه دليل : على الاحتياط بأخذ جزء من الليل زائد على مغيب الشمس .

قلت : وقد روى الترمذي حديثا صحيحا يرفع الخلاف في هذه المسألة : عن عروة بن مضرس - رضي الله عنه - قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله ! إني جئت من جبلي طيء ، أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من شهد صلاتنا هذه ، فوقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه ) . قال : هذا حديث حسن صحيح . وزاد النسائي : (ومن لم يدرك مع الإمام والناس ; فلم يدرك) وظاهر هذا : أنه لا يلزم الجمع بين وقوف الليل والنهار ، بل أيهما فعل أجزأ ; لأن الرواية فيه بـ (أو) التي هي لأحد الشيئين ، غير أنه قد جاء في كتاب النسائي من حديث عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه قال : شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ، وأتاه ناس من نجد ، فأمروا رجلا ، فسأله عن الحج؟ فقال : (الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح ، فقد أدرك حجه ) . وقال الترمذي : ( من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر ) . قال وكيع : هذا الحديث أم المناسك . وقال : حديث حسن صحيح .

و ( شنق الزمام ) : ضمه وضيقه على ناقته . وقد فسره بقوله : حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، وهو قطعة من أدم يتورك عليها الراكب ، تجعل في مقدمة الرحل ، شبه المخدة . قال القاضي عياض : مورك ; بفتح الراء .

[ ص: 339 ] وقوله : ( ثم اضطجع حتى طلع الفجر ، فصلى حتى تبين له الصبح ) ; فيه سنة المبيت بالمزدلفة ، وصلاة الصبح بها بغلس ، وسيأتي : أنه أرخص لبعض نسائه في النفر منها إلى منى قبل طلوع الفجر . وفيه : الأذان في السفر ; خلافا لمن قال : يقتصر المسافر على الإقامة .

وقوله : ( ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ) ; فيه : أن الوقوف بالمشعر إلى الإسفار من المناسك . وقد ذكره الله تعالى في قوله : فاذكروا الله عند المشعر الحرام

وقد اختلف في وجوب الوقوف فيه : فذهب أبو عبيد القاسم بن سلام : إلى وجوبه . والجمهور على أنه مستحب .

و ( الظعن ) : النساء في الهوادج . و ( يجرين ) بضم الياء وفتحها ، وكلاهما واضح المعنى . و ( طفق ) : أخذ ، وجعل .

ووضع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه الفضل : إنما كان خوفا من الفتنة عليه ، وكونه - صلى الله عليه وسلم - لم ينهه عن ذلك ولم يزجره ; دليل : على أنه لم يفعل محرما . وقال بعض مشايخنا : ستر الوجه عن النساء سنة . وكان الحجاب على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبا .

[ ص: 340 ] وقوله : ( حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ) محسر : واد معروف هناك ، يستحب للحاج أن يحرك دابته هنالك ، كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله : ( كل حصاة منها حصى الخذف ) هكذا صحت الرواية فيه في كتاب مسلم . وكان في كتاب القاضي ابن عيسى : (كل حصاة منها مثل حصى الخذف) وهذا هو الصواب . وكذا رواه غير مسلم .

والخذف : رميك حصاة ، أو نواة تأخذها بين سبابتيك ، أو تجعل مخذفة من خشب ترمي بها بين إبهامك والسبابة .

وقوله : ( رمى من بطن الوادي ) يعني من أسفلها ، كما يأتي من حديث ابن مسعود ، وهو المستحب . فلو رمى من أي مكان صح رميه ; إذا رمى في موضع المرمى.

وقوله : ( ثم انصرف إلى المنحر ) أي : الموضع الذي نحر هو فيه . وموضع نحره أولى من غيره ; على أن كل منى منحر ، كما قاله - صلى الله عليه وسلم - . قال مالك : إلا ما خلف العقبة وقديد .

والنحر بمنى عند مالك له ثلاثة شروط :

أحدها : أن يوقف بالهدي بعرفة .

الثاني : أن يكون النحر في أيام منى .

الثالث : أن يكون النحر في حج لا في عمرة .

فإذا اجتمعت هذه الشروط ; فلا يجوز النحر إلا بمنى ، لا بغيرها . وقال [ ص: 341 ] القاضي إسماعيل : إنه يجوز أن ينحر بمكة أيام منى ، وقد حكى أنه مذهب مالك . فأما في العمرة فالنحر بها بمكة في بيوتها ، وطرقها ، وفجاجها . ويجزئ عند مالك النحر في العمرة بمنى ، فإن نحر بغير منى ومكة في الحج والعمرة لم يجز عنده . وجاز عند أبي حنيفة ، والشافعي بأي موضع كان من الحرم ، قالا : والمقصود : مساكين الحرم ، لا الموضع منه . وأجمعوا : أنه لا يجوز فيما عدا الحرم ، ولا يجوز في البيت والمسجد نحر ولا ذبح .

وقوله : ( فنحر ثلاثا وستين بيده ) هكذا رواية الجماعة ، وعند ابن ماهان : (بدنة) مكان (بيده) ، وكل صواب . وفيه ما يدل على أن الأولى للمهدي أو للمضحي أن يتولى ذلك بيده .

وإعطاؤه ما بقي لعلي لينحرها دليل على صحة النيابة في ذلك ، غير أنه روي في غير كتاب مسلم : أنه إنما أعطاه إياها ليهديها عن نفسه . ويدل عليه قوله : وأشركه في هديه . وعلى هذا : فلا يكون فيه حجة على الاستنابة . وقيل : إنما نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وستين بدنة ; لأنها هي التي أتى بها من المدينة ، كما ذكره الترمذي. وقيل : إنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك العدد ; لأنه منتهى عمره صلى الله عليه وسلم على ما هو الأصح في ذلك ، فكأنه أهدى عن كل سنة من عمره بدنة .

وقوله : ( ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر ، فطبخت ، فأكلا من لحمها ، وشربا من مرقها ) إنما فعل هذا ليمتثل قوله تعالى : فكلوا منها وهما وإن لم يأكلا من كل بضعة ، فقد شربا من مرق كل ذلك . وخصوصية علي بالمؤاكلة دليل على أنه أشركه في الهدي .

وفيه دليل : على أن من حلف لا يأكل لحما فشرب مرقه : أنه يحنث .

وفيه دليل على استحباب أكل [ ص: 342 ] الأقل من الهدايا والضحايا ، والتصدق بالأكثر .

وفيه دليل على جواز أكل المهدي من هدي القران . وقد قدمنا : أنه كان قارنا ، وسيأتي حكم الأكل من الهدايا .

وقوله : ( ثم ركب فأفاض إلى البيت ) هذا هو طواف الإفاضة . ويسمى : طواف الزيارة . وهو واجب بإجماع . وهو الذي تناوله قوله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ولا خلاف أن إيقاعه يوم النحر أولى وأفضل . فلو أوقعه بعد يوم النحر ، فهل يلزم الدم بتأخيره أم لا يلزم ؟ واختلف فيه ، وسيأتي . والجمهور على أن: من ترك طواف الإفاضة أن طواف الوداع لا يجزئ عنه إلا مالكا ، فإنه قال : يجزئ عنه إذا رجع إلى بلده .

قال القاضي عياض : وكذلك طواف التطوع .

وقوله : ( لولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ) يعني أنه لو استقى هو بيده لاقتدى الناس به في ذلك ، فاستقوا بأيديهم ، فتزول خصوصية بني عبد المطلب ، وهي ثابتة لهم ، كولاية الحجابة لبني شيبة ، كما يأتي إن شاء الله تعالى . ويقال : نزع ، بفتح الزاي ، ينزع بكسرها لا غير ، وإن كان الأصل فيها الفتح في المضارع ; لأن ما كان على : فعل ، وعينه أو لامه حرف حلق ، فالأصل في مضارعه أن يأتي على : يفعل ، بفتح العين أو بضمها . والنزع : الاستقاء بالرشا . والنزح بالحاء : الاستقاء بالدلو .

و ( وأبو سيارة) هو : عميرة بن الأعزل .

[ ص: 343 ] وقوله : ( فلما أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ، ويكون منزله ثم ) يعني : أنهم توهموا أنه يفعل كما كانت هي تفعل في الجاهلية ، فإنهم كانوا يرون لأنفسهم أنهم لا يقفون بعرفة ، ولا يخرجون من الحرم ، ويقفون بالمشعر الحرام بدل وقوف الناس بعرفة ، وهذا مما كانوا ابتدعوه في الحج ، فلما حج النبي - صلى الله عليه وسلم - أحكم الله الحج ، وأزال ما ابتدعته الجاهلية ، وأنزل الله: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس يخاطب قريشا ، ويأمرهم بأن يقفوا بعرفة حيث يقف غيرهم من الناس ، وكذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعدل عن المشعر الحرام إلى عرفة ، فوقف بها ، وهي سنة إبراهيم المعروفة عند العرب وغيرهم .

وقوله : ( نحرت هاهنا ، ومنى كلها منحر ) ; يعني : أنه وإن كان قد نحر في ذلك الموضع المخصوص من منى ، فالنحر واسع في كل مواضعها ، وهو متفق عليه ، وكذلك عرفة ومزدلفة . غير أن توخي موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنحره أولى تبركا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبآثاره ، وفي حديث مالك : ( عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة ) وهو وادي عرفة . قال ابن حبيب : وفيه مسجد عرفة ، وهو من الحرم . واتفق العلماء : على أنه لا موقف فيه . واختلفوا فيمن وقف في عرنة : فقال أبو مصعب : هو كمن لم يقف ، وحكي عن الشافعي . وقال مالك : حجه صحيح وعليه دم . حكاه عنه ابن المنذر . ومن وقف في المسجد أجزأه عند مالك . وقال [ ص: 344 ] أصبغ : لا يجزئ. و ( عرنة ) بضم العين والراء ، وذكره ابن دريد بفتح الراء ، وهو الصواب .

وقوله : ( وجمع كلها موقف ) في رواية مالك : (وارتفعوا عن بطن محسر ) اتفق العلماء على الأخذ بهذا الحديث ، وترك الوقوف به ، واستحبوا الوقوف حيث المنارة ، وحيث تقف الأئمة بين الجبلين ، ومحسر ليس من المزدلفة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية