المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2143 (19) باب

الإهلال بما أهل به الإمام

[ 1096 ] عن أبي موسى قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو منيخ بالبطحاء. فقال لي: أحججت؟ فقلت: نعم ، فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك ، بإهلال كإهلال النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: فقد أحسنت .

- وفي رواية : قال : هل سقت من هدي؟ قلت: لا - قال : طف بالبيت وبالصفا والمروة ، وأحل ، قال: فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من بني قيس ، ففلت رأسي.

- وفي رواية : فمشطتني وغسلت رأسي - ثم أهللت بالحج ، قال: فكنت أفتي به الناس حتى كان في خلافة عمر ، فقال له رجل: يا أبا موسى ( أو : يا عبد الله بن قيس) رويدك بعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقال: يا أيها الناس من كنا أفتيناه فتيا فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم ، فبه فأتموا ، قال: فقدم عمر ، فذكرت ذلك له. فقال: إن نأخذ بكتاب الله ، فإن كتاب الله يأمر بالتمام ، وإن نأخذ بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحل حتى بلغ الهدي محله.


وفي رواية : فقال عمر : قد علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد فعله، وأصحابه ، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم .

رواه البخاري (1559)، ومسلم (1221) (154 155) (1222)، والنسائي (5 \ 153) .


(19) ومن باب: الإهلال بما أهل به الإمام

قوله : ( وهو منيخ بالبطحاء ) أي : مضطجع ببطحاء مكة . وهي المسماة بالأبطح والمحصب .

وقوله : ( لبيك بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -) وهذا كما تقدم من إهلال علي رضي الله عنه ، وظاهره : أنه يجوز أن يهل من غير تعيين حج ولا عمرة ، ويحيل في التعيين على إحرام فلان إذا تحقق : أنه أحرم بأحدهما . وقد اختلف في هذا ، فقال بمنعه مالك ، وأجازه الشافعي ، كما تقدم .

قلت : ولا تتم حجة الشافعي بهذا الحديث ، ولا بحديث علي - رضي الله عنه - حتى يتبين أنهما حيث ابتدأ الإحرام لم يعلما عين ما أحرم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ; إذ يجوز أن يكون كل واحد منهما نقل إليه عين ما أحرم به النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولفظهما محتمل ، والله تعالى أعلم .

[ ص: 347 ] وقوله : ( وكنت أفتي الناس به ) يعني : بالتحلل لمن أحرم بالحج بعمل العمرة ، وكأن أبا موسى رضي الله عنه -اعتقد - عموم مشروعية ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من التحلل ، وتعديه لغير الصحابة ، ولم ير أن ذلك خاص بالصحابة -رضي الله عنهم - كما اعتقد غيره منهم .

و ( رويدك ) أي : ارفق رفقك ، أو كف بعض فتياك ، فيصح أن يكون مصدرا ومفعولا ، فيكون مثل قول امرئ القيس :


أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ......

و (فليتئد) : فليرفق .

وقول عمر : ( إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام ) يعني في قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله

وقوله : ( وإن نأخذ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى نحر الهدي ) يعني : أن حجة الوداع لم يحل النبي - صلى الله عليه وسلم - منها حتى رمى جمرة العقبة ، ولم يحل بعمرة ، كما فعل أصحابه .

[ ص: 348 ] وقوله : ( قد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ) ; يعني به : فسخ الحج في العمرة . ونسبة الفسخ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أمر بفعله . واعتلاله بقوله : ( كرهت أن يظلوا بهن معرسين في الأراك ) يعني : أنه كره أن يحلوا من حجهم بالفسخ المذكور ، فيطؤون نساءهم قبل تمام الحج الذي كانوا أحرموا به . ولا يظن بمثل عمر رضي الله عنه ، الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه أنه منع ما جوزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرأي والمصلحة ، فإن ذلك ظن من لم يعرف عمر ، ولا فهم استدلاله المذكور في الحديث ، وإنما تمسك بقول الله عز وجل : وأتموا الحج والعمرة لله ; ففهم : أن من تلبس بشيء منهما وجب عليه إتمامه ، ثم ظهر له : أن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قضية معينة مخصوصة على ما ذكرناه فيما تقدم ، فقضى بخصوصية ذلك لأولئك. ثم إنه أطلق الكراهية وهو يريد بها التحريم ، وتجنب لفظ التحريم ; لأنه مما أداه إليه اجتهاده . وهذه طريقة كبراء الأئمة : كمالك ، والشافعي . وكثيرا ما يقولون : أكره كذا... وهم يريدون التحريم ، وهذا منهم تحرز وحذر ، من قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام

( معرسين ) : جمع معرس ، وهو الذي يخلو بعرسه ; أي : بزوجته . ولا يصح [ ص: 349 ] أن يكون من التعريس ; لأن الرواية بتخفيف العين والراء ; ولأن التعريس إنما هو : النزول من آخر الليل ، كما تقدم . ويناقضه قوله : (يظلون ويروحون) فإنهما إنما يقالان على عمل النهار ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية