المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
179 (41) باب

في قوله عز وجل : لله ما في السماوات وما في الأرض إلى آخر السورة

[ 99 ] عن أبي هريرة ، قال : لما أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية [ البقرة : 284 ] ، قال : فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بركوا على الركب ، فقالوا : أي رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق ; الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل عليك هذه الآية ، ولا نطيقها!! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟! بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير ، فلما اقترأها القوم ، وذلت بها ألسنتهم ، أنزل الله في إثرها : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير [ البقرة : 285 ] فلما فعلوا ذلك ، نسخها الله تعالى ; فأنزل الله عز وجل : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : نعم ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال : نعم ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال : نعم ، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين [ البقرة : 286 ] قال : نعم .

رواه أحمد ( 2 \ 412) ، ومسلم ( 125 ) .


(41) ومن باب قوله تعالى : لله ما في السماوات وما في الأرض [ البقرة : 284 ] الآية

" ما " هذه التي في أول الآية بمعنى الذي ، وهي متناولة لمن يعقل وما لا يعقل ، وهي هنا عامة لا تخصيص فيها بوجه ; لأن كل من في السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما : خلق الله تعالى ، وملك له . وهذا إنما يتمشى على مذهب أهل الحق والتحقيق الذين يحيلون على الله تعالى أن يكون في السماء أو في الأرض ; إذ لو كان في شيء ، لكان محصورا محدودا ، ولو كان كذلك ، لكان محدثا . وعلى هذه القاعدة : فقوله تعالى : أأمنتم من في السماء [ الملك : 16 ] وقول الأمة [ ص: 336 ] للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها : أين الله ؟ فقالت : في السماء ، ولم ينكر عليها ذلك ، وما قد روي عن بعض السلف أنهم كانوا يطلقون ذلك ، ليس على ظاهره ، بل هو مؤول تأويلات صحيحة قد أبداها كثير من أهل العلم في كتبهم ، لكن السلف - رضي الله عنهم أجمعين - كانوا يجتنبون تأويل المتشابهات ، ولا يتعرضون لها ، مع علمهم بأن الله تعالى يستحيل عليه سمات المحدثات ، ولوازم المخلوقات ، واستيفاء المباحث هذه في علم الكلام .

و (قوله : " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ") ما : هذه أيضا على عمومها ، فتتناول كل ما يقع في نفس الإنسان من الخواطر ; ما أطيق دفعه منها وما لا يطاق ; ولذلك أشفقت الصحابة من محاسبتهم على جميع ذلك ومؤاخذتهم به ، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : كلفنا ما نطيق بالصلاة والصيام ، وهذه الآية لا نطيقها .

ففيه دليل على أن موضوع " ما " للعموم ، وأنه معمول به فيما طريقه الاعتقاد ; كما هو معمول به فيما طريقه العمل ، وأنه لا يجب التوقف فيه إلى البحث على المخصص ، بل يبادر إلى استغراق الاعتقاد فيه ، وإن جاز التخصيص ، وهذه المسائل اختلف فيها ; كما بيناه في " الأصول " .

ولما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك القول منهم ، أجابهم بأن قال : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم : سمعنا [ ص: 337 ] وعصينا ؟! بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، فأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما فهموه ، وبين لهم أن لله تعالى أن يكلف عباده بما يطيقونه وبما لا يطيقونه ، ونهاهم عن أن يقع لهم شيء مما وقع لضلال أهل الكتاب من المخالفة ، وأمرهم بالسمع والطاعة ، والتسليم لأمر الله تعالى على ما فهموه ، فسلم القوم لذلك وأذعنوا ، ووطنوا أنفسهم على أنهم كلفوا في الآية بما لا يطيقونه ، واعتقدوا ذلك ، فقد عملوا بمقتضى ذلك العموم ، وثبت وورد ، فإن قدر رافع لشيء منه ، فذلك الرفع نسخ لا تخصيص .

وعلى هذا : فقول الصحابي : فلما فعلوا نسخها الله على حقيقة النسخ ، لا على جهة التخصيص ; خلافا لمن لم يظهر له ما ذكرناه ، وهم كثير من المتكلمين على هذا الحديث ، ممن رأى أن ذلك من باب التخصيص ، لا من باب النسخ ، وتأولوا قول الصحابي : إنه نسخ ; على أنه أراد بالنسخ التخصيص ، وقال : إنهم كانوا لا يفرقون بين النسخ والتخصيص ، وقد كنت على ذلك زمانا إلى أن ظهر لي ما ذكرته ، فتأمله ; فإنه الصحيح ، إن شاء الله تعالى .

و (قوله : " إنهم - يعني : الصحابة إنهم - كانوا لا يفرقون بين النسخ والتخصيص ") إن أراد به : أنهم لم ينصوا على الفرق فمسلم ، وكذلك أكثر مسائل علم الأصول ، بل كله ; فإنهم لم ينصوا على شيء منها ، بل فرعوا عليها ، وعملوا على مقتضاها ، من غير عبارة عنها ولا نطق بها ، إلى أن جاء من بعدهم ، ففطنوا لذلك وعبروا عنه ، حتى صنفوا فيه التصانيف المعروفة ، وأولهم في ذلك الشافعي - رحمه الله - فيما علمنا . وإن أراد بذلك : أنهم لم يكونوا يعرفون الفرق بين النسخ والتخصيص ، ولا عملوا عليه : فقد نسبهم إلى ما يستحيل عليهم ; لثقابة أذهانهم ، [ ص: 338 ] وصحة فهومهم ، وغزارة علومهم ، وأنهم أولى بعلم ذلك من كل من بعدهم ; كيف لا وهم أئمة الهدى ، وبهم إلى كل العلوم يقتدى ، وإليهم المرتجع ، وقولهم المتبع ، وكيف يخفى عليهم ذلك ، وهو من المبادئ الظاهرة على ما قررناه في " الأصول " .

و (قوله : " لا نفرق بين أحد من رسله ") أي : يقولون : لا نفرق بين أحد منهم ; في العلم بصحة رسالاتهم ، وصدقهم في قولهم .

وغفرانك : منصوب على المصدر ، أي : اغفر غفرانك ، وقيل : مفعول بفعل مضمر ، أي : هب غفرانك . والمصير : المرجع . والتكليف : إلزام ما في فعله كلفة ، وهي النصب والمشقة . والوسع : الطاقة .

وهذه الآية تدل على أن لله تعالى أن يكلف عباده بما يطيقونه وما لا يطيقونه ، ممكنا كان أو غير ممكن ، لكنه تعالى تفضل بأنه لم يكلفنا ما لا نطيقه ، وبما لا يمكننا إيقاعه ، وكمل علينا بفضله برفع الإصر والمشقات التي كلفها غيرنا . واستيفاء مباحث هذه المسألة في علم الكلام والأصول .

و (قوله : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ") أي : ما كسبت من خير ، فلها ثوابه ، وما اكتسبت من شر ، فعليها عقابه . وكسب واكتسب : لغتان بمعنى واحد ; كقدر واقتدر .

ويمكن أن يقال : إن هذه التاء تاء الاستفعال والتعاطي ، ودخلت في اكتساب الشر دون كسب الخير ; إشعارا بأن الشر لا يؤاخذ به إلا بعد تعاطيه [ ص: 339 ] وفعله دون الهم به ; بخلاف الخير : فإنه يكتب لمن هم به وتحدث به في قلبه ، كما جاء في قوله - عليه الصلاة والسلام - مخبرا عن الله تعالى : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة ، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها ، فإذا عملها ، فأنا أكتبها له بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة ، فأنا أغفرها له ما لم يعمل ، فإذا عملها ، فأنا أكتبها له سيئة واحدة ، وفي لفظ آخر : " فإذا هم " بدل " تحدث " ، وسيأتي إن شاء الله تعالى النظر في هذا الحديث .

والإصر : العهد الذي يعجز عنه ; قاله ابن عباس ، وقال الربيع : هو الثقل العظيم ، وقال ابن زيد : هو الذنب الذي لا توبة له ، ولا كفارة .

و (قوله : " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ") قيل : اعف عن الكبائر ، واغفر الصغائر ، وارحم بتثقيل الموازين ، وقيل : اعف عن الأقوال ، واغفر الأفعال ، وارحم بتوالي الألطاف وسني الأحوال . قلت : وأصل العفو : التسهيل ، والمغفرة ، والستر ، والرحمة : إيصال النعمة إلى المحتاج .

ومولانا : ولينا ، ومتولي أمورنا ، وناصرنا .

ونعم : حرف جواب ، وهو هنا إجابة لما دعوا فيه ، كما قال في الرواية [ ص: 340 ] الأخرى عن ابن عباس : قد فعلت بدل قوله هنا : نعم . وهو إخبار من الله تعالى : أنه أجابهم في تلك الدعوات ، فكل داع يشاركهم في إيمانهم وإخلاصهم واستسلامهم ، أجابه الله تعالى كإجابتهم ; لأن وعده تعالى صدق ، وقوله حق . وكان معاذ يختم هذه السورة بآمين كما يختم الفاتحة ، وهو حسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية