المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2241 (33) باب في قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله

[ 1131 ] عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم-: ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا، وما أبالي ألا أطوف بهما ، قالت: بئس ما قلت . يا ابن أختي! طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وطاف المسلمون فكانت سنة، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية ، التي بالمشلل ، لا يطوفون بين الصفا والمروة . فلما كان الإسلام سألنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؟ فأنزل الله تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [البقرة: 158] ولو كانت كما تقول: لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فأعجبه ذلك. وقال: إن هذا العلم، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب ، يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة ، فأنزل الله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء.

وفي رواية قالت عائشة : إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا ، هم وغسان يهلون لمناة ، فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، وكان ذلك سنة في آبائهم ، من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة ، وإنهم سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أسلموا فأنزل الله الآية .

وفي أخرى: قالت : إنما كان ذلك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يقال لهما: إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون ، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما ، للذي كانوا يصنعون في الجاهلية ، قالت: فأنزل الله الآية .

وفي أخرى : قالت عائشة : قد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما .

رواه أحمد ( 6 \ 144 )، والبخاري (1643)، ومسلم (1277) (259 و 261 و 263)، والترمذي (2965)، والنسائي ( 5 \ 238 ).


[ ص: 382 ] (33) ومن باب: قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله [البقرة : 158]

قد تقدم الكلام في قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله [البقرة: 158] في حديث جابر . واختلف العلماء في حكم الطواف بين الصفا والمروة ; هل هو ركن في الحج والعمرة ؟ كما ذهب إليه الجمهور ، أو ليس بركن ، كما ذهب إليه جماعة من السلف وغيرهم ؟ ثم من هؤلاء من قال : إنه تطوع لا يجبر بالدم ; وهم : أنس ، وعبد الله بن الزبير ، وابن سيرين . ومنهم من قال : يجبر بالدم ; وهم : الحسن البصري ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، وأبو حنيفة . وربما أطلق عليه بعضهم لفظ الواجب. وقال أصحاب الرأي : إن تركه أو أربعة منه ; فعليه دم . وإن ترك من الثلاثة شيئا ; فعليه لكل شوط إطعام مسكين نصف صاع من حنطة . والصحيح مذهب الجمهور على ما يأتي .

وقول عروة : ( ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا ، وما أبالي [ ص: 383 ] ألا أطوف بهما ) ; إنما فهم هذا عروة من ظاهر قوله تعالى : فلا جناح عليه أن يطوف بهما ووجه فهمه أن رفع الحرج عن الفعل إنما يشعر بإباحته ، لا بوجوبه ، وهو مقتضى ظاهرها ; إذا لم يعتبر سبب نزولها. فإذا وقف على سبب نزولها تحقق الواقف عليه : أنها إنما أتت رافعة لحرج من تحرج من الطواف بينهما على ما يأتي .

وقد اختلف فيه قول عائشة ، واختلف الرواة عنها في ذلك. ففي بعض الروايات عنها : أن أهل المدينة كان من أهل منهم لمناة ; لم يطف بينهما. وكأن هؤلاء بقوا بعد الإسلام على ذلك الامتناع حتى أنزلت الآية. وفي بعضها : أن من أهل لإساف ونائلة بالإسلام خافوا ألا يكون مشروعا لمن لم يهل لهما . فرفع الله تلك التوهمات كلها بقوله : فلا جناح عليه وقد ذكر أبو بكر بن عبد الرحمن عند سماعه قول عائشة -رضي الله عنها- ما يدل على سببين آخرين ، نص عليهما في معنى الحديث ، ويرتفع الإشكال ، ويصح الجمع بين هذه الروايات المختلفة بالطريق الذي سلكه أبو بكر بن عبد الرحمن ; حيث قال : فأراها نزلت في هؤلاء [ ص: 384 ] وهؤلاء . فنقول : نزلت الآية جوابا لجميع هؤلاء الذين ذكرت أسبابهم . ورافعة للحرج عنهم ، والله تعالى أعلم .

و(مناة) : صنم كان نصبه عمرو بن لحي بجهة البحر بالمشلل . وهو موضع مما يلي قديدا . وقال ابن الكلبي : مناة : صخرة لهذيل بقديد .

و (قوله في الرواية الأخرى : ( إن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر; يقال لهما : إساف ونائلة ) هكذا رواية أبي معاوية عند الكافة من الرواة ، وعند ابن الحذاء : (في الجاهلية لمناة) وكانت صنمين على شط البحر . وهذا هو الصحيح ، كما تقدم من قول الكلبي وغيره . قالوا : وأما إساف ونائلة فلم يكونا قط بجهة البحر ، وإنما كانا - فيما يقال - رجل اسمه : إساف بن بقاء ، ويقال : ابن عمرو ، وامرأة اسمها : نائلة ابنة ذئب ، ويقال : ديك ، ويقال : بنت سهل ; كانا من جرهم زنيا في داخل الكعبة ; فمسخهما الله حجرين ، فنصبا عند الكعبة . وقيل : بل على الصفا والمروة ، ليعتبر بهما ويتعظ . ثم حولهما قصي ; فجعل أحدهما لصق الكعبة ، والآخر بزمزم . وقيل : بل جعلهما بزمزم ، ونحر عندهما ، وأمر بعبادتهما ، فلما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة كسرهما . والله تعالى أعلم .

[ ص: 385 ] وقولها : ( لو كانت كما قلت ; لكانت : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ) هذا يدل : على أن الذي روي : أنه في مصحف أبي : (ألا يطوف بهما) بإثبات (ألا) ليس بصحيح ; إذ لو كان كذلك لكانت عائشة -رضي الله عنها- أعرف الناس به ، ولما خفي عليها ، ولا على غيرها ممن له عناية بالقرآن .

وقولها : ( قد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما ) ; سن : بمعنى شرع وبين . وهو ركن واجب من أركان الحج والعمرة عند جمهور السلف ، وفقهاء الخلف ، كما تقدم ، ولا ينجبر بالدم ، ومن تركه ، أو شوطا منه ; عاد إليه ما لم يصب النساء ; فإن أصاب أعاد قابلا حجة أو عمرة . واستدل للجمهور : بأن الله تعالى قد جعله من الشعائر ، وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : (خذوا عني مناسككم) وبحديث أم حبيبة بنت أبي تجراة الشيبية ، قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بين الصفا والمروة ، وهو يقول : (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) غير أن هذا الحديث تفرد به عبد الله بن المؤمل ، وهو يسيء الحفظ ، واستيفاء الاستدلال في مسائل الخلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية