المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2359 (47) باب

ما جاء في دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة وفي صلاته فيها

[ 1183 ] عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل الكعبة هو وأسامة، وبلال، وعثمان بن طلحة الحجبي - وفي رواية: ولم يدخلها معهم أحد - فأغلقها عليه، ثم مكث فيها ، قال ابن عمر: فسألت بلالا حين خرج: ما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: جعل عمودين عن يساره، وعمودا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى.

وفي رواية : ثم فتح الباب قال عبد الله: فبادرت الناس ، فلقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خارجا، وبلال على أثره ، فقلت لبلال: هل صلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم قلت: أين؟ قال: بين العمودين، تلقاء وجهه ، قال: ونسيت أن أسأله كم صلى .


رواه أحمد (2/ 33 و 55) والبخاري (505)، ومسلم ( 1329) (388 و 389) ، وأبو داود (2023 و 2025)، والنسائي ( 2/ 63).

[ 1184 ] وعنه، قال: أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد ، حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: ائتني بالمفتاح، فذهب إلى أمه ، فأبت أن تعطيه. فقال: والله لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبي ، قال: فأعطته إياه ، فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فدفعه إليه ، ففتح الباب، ثم ذكر نحوه

رواه مسلم (1329) (390).


[ ص: 429 ] (47) ومن باب: دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة

هذا إنما كان عام الفتح ، كما جاء منصوصا في الرواية الأخرى ، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - محرما يوم الفتح ، فلا يستدل به ، على أن دخول البيت نسك في الحج والعمرة ; كما ذهب إليه بعضهم. وأما أحاديث حجة الوداع فليس في شيء منها تحقيق : أنه صلى الله عليه وسلم دخل أولا. غير أن أبا داود روى من حديث عائشة -رضي الله عنها- : أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها مسرورا ، ثم رجع إليها وهو كئيب ، فقال : (إني دخلت الكعبة ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها ، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي ) ; وظاهره : أن ذلك كان في حجة الوداع ، غير أن هذا الحديث في إسناده إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغير ، وهو ضعيف . وقد رواه البزار بإسناد آخر ، ولا يثبت أيضا .

وقوله : ( فأغلقها عليه ) ; فيه دليل على اختصاص السابق للمنفعة المشتركة بها ، ومنعها ممن يخاف تشويشها عليه ، وقال الشافعي : فائدة أمره - صلى الله عليه وسلم - بإغلاقها وجوب الصلاة إلى جدار من جدرها ، وأنه لو صلى إلى الباب وهو مفتوح ; لم يجزه ; لأنه لم يستقبل منها شيئا . وألزم من مذهبه إبطال هذا ; لأنه يجيز الصلاة في [ ص: 430 ] أرضها لو تهدمت الجدر ; لاستقباله أرضها . وقيل : إنما أغلقها دونهم لئلا يتأذى بزحامهم . وقيل : لئلا يصلى بصلاته ، فتتخذ الصلاة فيها سنة . ولا يلتفت لقول من قال : إنما فعل ذلك لئلا يستدبر شيئا من البيت ، كما وقع في زيادة البخاري عن بعض الرواة ; لأن الباب إذا أغلق ; صار كأنه جدار البيت .

وقوله : ( جعل عمودين عن يساره ، وعمودا عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه ) ; هكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى التميمي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر . ورواه يحيى بن يحيى الأندلسي وغيره في "الموطأ" عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : (جعل عمودا عن يساره ، وعمودين عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه) . وفي مسلم من حديث ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ; أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بين العمودين اليمانيين . وظاهر هذا الاختلاف اضطراب . ويمكن أن يقال : إنه - صلى الله عليه وسلم - تكررت صلاته في تلك المواضع ، وإن كانت القضية واحدة ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - مكث في الكعبة طويلا .

[ ص: 431 ] وحديث ابن عمر هذا ، وروايته عن بلال يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في البيت الصلاة المعهودة الشرعية . وبهذا أخذ الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وجماعة من السلف ، وبعض الظاهرية فقالوا : يصلى في الكعبة التطوع والفرض . وقد خالف بلالا أسامة ، فقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في الكعبة ، وإنما دعا فيها . وبهذا أخذ ابن عباس ، وبعض الظاهرية ; فلم يجيزوا فيها فرضا ولا تطوعا . وقال مالك : لا يصلى فيها الفروض ولا السنن ، ويصلى فيها التطوع ، غير أنه إن صلى فيها الفرض أعاد في الوقت . وقال أصبغ : يعيد أبدا .

ويمكن أن يجمع بين حديث أسامة وبلال على مقتضى مذهب مالك . فيقال : إن قول بلال : أنه صلى فيها ; يعني به : التطوع . وقول أسامة : إنه لم يصل فيها ; يعني به : الفرض . وقد جمع بينهما بعض أئمتنا بوجه آخر فقال : إن أسامة تغيب في الحين الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يشاهده ، فاستصحب النفي لسرعة رجعته ، فأخبر عنه ، وشاهد ذلك بلال فأخبر عما شاهد. وعضد هذا بما رواه ابن المنذر عن أسامة قال : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صورا في الكعبة ، فكنت آتيه بماء في الدلو يضرب به تلك الصور . فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في حالة مضي أسامة في طلب الماء ، والله تعالى أعلم .

وعلى الجملة : فحديث من أثبت أولى أن يؤخذ به ; لأنه أخبر عن مشاهدة ، فكان أولى من النافي .

وفي هذا الحديث ما يدل: على أن سدانة البيت ولاية باقية لعثمان بن طلحة [ ص: 432 ] وذويه ، فلا تنتزع منهم بحال ; كالسقاية في بني العباس ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي إلا سقاية الحاج ، وسدانة البيت) . وقال : (يا بني عبد الدار ! خذوها خالدة ، تالدة) . وبذلك قال جميع العلماء . وأعظم مالك أن يشرك غيرهم فيها معهم .

وهذه العمرة التي سئل عنها ابن أبي أوفى هي عمرة القضاء ، ولم يختلف أنه لم يدخل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت ; لما كان فيه من الصور ، والأصنام ، ولم يكن يقدر على تغييرها إذ ذاك لأجل مشركي أهل مكة ، فلما فتحها الله عليه دخل البيت ، وصلى فيه ، على ما تقدم . وسائر عمره لم يثبت فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخوله البيت ، ولا نفيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية