المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2369 [ 1189 ] ومن حديث عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة عنها ، قالت : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية (أو قال: بكفر) لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها من الحجر .

وفي رواية: فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر ، إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم.

رواه مسلم (1333) (399 و 400).


وقوله : ( لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ) ; هذا الكنز هو المال الذي كان يجتمع مما كان يهدى إلى الكعبة ، وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك المال في الكعبة للعلة التي ذكر ، وهي : مخافة التنفير . وأقره أبو بكر ولم يعرض له . ثم إن عمر هم بقسمته ، فخالفه في ذلك بعض الصحابة ، واحتج عليه : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر لم يفعلا ذلك ، فتوقــف .

قلت : ولا يظن أن هذا الكنز الذي جرى فيه ما ذكرنا أنه يدخل فيه حلي الكعبة الذي حليت به من الذهب والفضة ، كما ظنه بعضهم ، فإن ذلك ليس [ ص: 435 ] بصحيح ; لأن حليتها محتبسة عليها ، كحصرها ، وقناديلها ، وسائر ما يحبس عليها لا يجوز صرفها في غيرها ، ويكون حكم حليها حكم حلية سيف أو مصحف حبسا في سبيل الله ; فإنه لا يجوز تغييره عن الوجه الذي حبس له ، وإنما ذلك الكنز كما ذكرناه ، وكأنه فضلة ما كان يهدى إليها عما كانت تحتاج إليه مما ينفق فيها ، فلما افتتح النبي - صلى الله عليه وسلم - خاف من نفرة قلوب قريش إن هو أنفقه في سبيل الله تعالى ، كما قال. وذلك أنهم كانت عادتهم في ذلك : ألا يتعرضوا له. فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لما ذكره ، ثم إنه بقي على ذلك في إمارة أبي بكر وعمر ، ولا أدري ما صنع به بعد ذلك . وينبغي أن يبحث عنه.

وسبيل الله هنا : الجهاد . وهو الظاهر من عرف الشرع ، كما قررناه في كتاب الزكاة .

و (من) في قوله : ( من الحجر ) للتبعيض ، بدليل قوله في الرواية الأخرى : (أدخلت من الحجر خمسة أذرع) .

وقول عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : ( لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ; ليس شكا منه في سماعها ، ولا في سماع الراوي عنها ، وإنما هذا على طريقة وضع الشرطي المتصل الذي يوضع شرطه تقديرا ليتبين مشروطه تحقيقا . وله في كلام الله تعالى ، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - نظائر ، منها : قوله عز وجل : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [الزخرف: 81] وقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [الأنبياء : 22] ومثله كثير. ولبسط هذا وتحقيقه علم آخر . وقد يأتي هذا النحو في الكلام على طريق تبيين الحال على وجه يأنس به المخاطب ، [ ص: 436 ] وإظهار التناصف في الكلام ، كقوله تعالى : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب [سبأ: 50] وعلى الجملة : فالشرط يأتي في الكلام على غير وجه الشك ، وهو كثير .

وقوله : ( ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلام الركنين اليمانيين إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم ) ; يعني : أن الركنين اللذين يليان الحجر ليسا بركنين ، وإنما هما بعض الجدار الذي بنته قريش ، فلذلك لم يستلمهما . وقد تقدم القول على هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية