المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2371 [ 1190 ] وعن عطاء قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، فكان من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير، حتى قدم الناس الموسم ، يريد أن يجرئهم، أو يحزبهم على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة أنقضها، ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وهى منها؟ فقال ابن عباس: فإني قد فرق لي رأي فيها ، أرى أن تصلح ما وهى منها ، وتدع بيتا أسلم الناس عليه ، وأحجارا أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجده ، فكيف ببيت ربكم ، إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عازم على أمري ، فلما مضت ثلاث أجمع رأيه أن ينقضها ، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء ، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة ، فلما لم يره الناس أصابه شيء ، تتابعوا فنقضوه ، حتى بلغوا به الأرض ، فجعل ابن الزبير أعمدة ، فستر عليها الستور ، حتى ارتفع بناؤه . وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت من الحجر خمس أذرع ، ولجعلت لها بابا يدخل الناس منه ، وبابا يخرجون منه . قال: فأنا اليوم أجد ما أنفق ، ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمس أذرع من الحجر ، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه ، فبنى عليه البناء ، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا ، فلما زاد فيه استقصره ، فزاد في طوله عشر أذرع ، وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه. قال : فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاد في طوله فأقره ، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه. وسد الباب الذي فتحه . فنقضه وأعاده إلى بنائه .

وفي رواية : قال عبد الملك: ما أظن

أبا خبيب (يعني ابن الزبير) سمع من عائشة ما كان زعم أنه سمعه منها. قال الحارث بن عبد الله : بلى أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول: ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن قومك استقصروا من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه ، فإن بدا لقومك من بعدك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه. فأراها قريبا من سبع أذرع.

وفي أخرى : فقال عبد الملك : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير.


رواه أحمد ( 6/ 239) والبخاري (1586)، ومسلم (1333) ( 402 و 403 و 404)، والنسائي ( 5/ 261).


وقوله : (يريد أن يجرئهم - أو يحزبهم -) ; الأول : من الجرأة ، وهي الشجاعة . والثاني من التحزيب ، وهو التجميع. هكذا لابن سعيد ، والفارسي ، وغيرهما . ومعنى ذلك : أنه أراد أن يشجعهم أو يجمعهم على أهل الشام بإظهار قبح أفعالهم في الكعبة . وروى العذري الحرف الأول : (يجربهم) بالباء بواحدة ; من التجربة ; أي : يختبر ما عندهم من الغضب لله تعالى ، ولنبيه. وقيد كافتهم الحرف الثاني : (يحربهم) بالحاء والراء المهملتين ، والباء بواحدة ; من التحريب ، وهو : التغضيب . يقال : حربت الأسد . وأسد محرب ; أي : أغضبته ، فهو مغضب .

[ ص: 437 ] وقول ابن عباس : ( إنه فرق لي فيها رأي ) ; أي : انكشف واتضح . ومنه قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث [الإسراء: 106] ; أي : أوضحناه ، وكشفنا معانيه. و ( وهى ) : ضعف ورث . و ( أجمع رأيه ) - رباعيا - : عزم ، وأمضى . فأما : جمع - ثلاثيا - : فضد التفريق . و ( تحاماه الناس ) ; أي : امتنعوا من نقض البيت خوفا وهيبة . و ( تتابعوا ) كافة الرواة على الباء بواحدة من التتابع . وهو الجيد هنا . وضبطه أبو بحر بالياء باثنتين من تحتها ، ومعناهما واحد ، غير أن : التتايع - بالياء ، باثنتين - أكثره في الشر .

وقوله : ( فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور ) ; إنما فعل ذلك ابن الزبير لاستقبال المستقبلين ، وطواف الطائفين ، ولأن ابن عباس قال : (إن كنت هادمها فلا تدع الناس لا قبلة لهم. وهذا يدل على أن بقعة البيت ما كانت تتنزل عندهما منزلة البيت ، وقد خالفهما في ذلك جابر وقال : صلوا إلى موضعها. وقد ذكرنا الخلاف بين الفقهاء في ذلك . وما فعله عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- في [ ص: 438 ] البيت كان صوابا وحقا . وقبح الله الحجاج ، وعبد الملك ، لقد جهلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجترأا على بيت الله وعلى أوليائه .

و ( التلطيخ ) : التلويث والتقذير . يقال : لطخت فلانا بأمر قبيح : إذا رماه به . ورجل لطيخ ; أي : قذر . أراد بذلك العيب لفعله . وهو المعاب .

وقوله : ( ثم أعاده إلى بنائه ) ; يعني : البناء الأول المتقدم على بناء ابن الزبير . وهو الذي عليه الآن . وقد كان الرشيد أراد أن يرده على ما بناه ابن الزبير ، فقال له مالك : نشدتك الله يا أمير المؤمنين ! ألا تجعل هذا البيت [ ص: 439 ] ملعبة للملوك ; لا يشاء أحد إلا نقض البيت وبناه ، فتذهب هيبته من صدور الناس . فترك ما هم به ، واستحسن الناس هذا من مالك ، وعملوا عليه ، فصار هذا كالإجماع . على أنه لا يجوز التعرض له بهد أو تغيير . والله أعلم .

وقوله : ( فأراها قريبا من سبع أذرع ) ; هذا ليس مخالفا لما تقدم من خمس أذرع ; لأن هذا تقدير ، وذكر الخمس تحقيق .

وقول عبد الملك : ( لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير ) ; تصريح منه بجهله بالسنة الواردة في ذلك ، وهو غير معذور في ذلك ; فإنه كان متمكنا من التثبت في ذلك ، والسؤال ، والبحث ، فلم يفعل ; واستعجل ، وقصر . فالله حسيبه ، ومجازيه على ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية