المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2375 (49) باب

الحج عن المعضوب والصبي

[ 1193 ] عن عبد الله بن عباس قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه ، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه؟ قال: " نعم" وذلك في حجة الوداع.

وفي رواية : قالت: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فحجي عنه" .

رواه أحمد ( 1 \ 36 ) والبخاري ( 1513)، ومسلم (133) و (1335)، وأبو داود (1809)، والنسائي ( 5 \ 118)، وابن ماجه (2909).


[ ص: 441 ] (49) ومن باب: الحج عن المعضوب

قوله : ( فجعل الفضل ينظر إليها ، وتنظر إليه ) ; هذا النظر منهما بمقتضى الطباع ; فإنها مجبولة على الميل إلى الصور الحسنة . ولذلك قال في رواية : (وكان الفضل أبيض وسيما) ; أي : جميلا . و (صرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه الفضل إلى الشق الآخر) ; منع له من مقتضى الطبع ، ورد له إلى مقتضى الشرع .

وفيه دليل : على أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام ، وأنها لا يجب عليها ستره وإن خيف منها الفتنة ، لكنها تندب إلى ذلك ، بخلاف أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الحجاب عليهن كان فريضة .

وقولها : ( إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ) ; هذا هو المسمى بالمعضوب . والعضب : القطع . وبه سمي السيف : عضبا ، وكأن من انتهى إلى هذه الحالة قطعت أعضاؤه ; إذ لا يقدر على شيء . وقد [ ص: 442 ] بينته في الرواية الأخرى بقولها : (لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره . فبمجموع الروايتين يحصل : أنه لا يقدر على الاستواء على الراحلة ، ولو استوى لم يثبت عليها .

وقولها : ( أدركت أبي ) ، وفي الرواية الأخرى : ( عليه فريضة الله في الحج ) ; ظاهر في أن من لم يستطع الحج بنفسه أنه يخاطب به . وبهذا الظاهر أخذ الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة ، والجمهور على تفصيل لهم يأتي إن شاء الله تعالى . وخالفهم في ذلك مالك وأصحابه ، ورأوا : أن هذا الظاهر مخالف لقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [آل عمران: 97] فإن الأصل في الاستطاعة إنما هي القوة بالبدن . ومنه قوله تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [الكهف: 97] ; أي : ما قدروا ، ولا قووا . وبالجملة : فإذا قال القائل : فلان مستطيع ، أو غير مستطيع . فالظاهر منه السابق إلى الفهم : نفي القدرة أو إثباتها ، فلما عارض ظاهر الحديث ظاهر القرآن رجح مالك رحمه الله ظاهر القرآن . وهو مرجح بلا شك من أوجه : منها : أنه مقطوع بتواتره . ومنها : أن هذا القول إنما هو قول المرأة على ما ظنت. ثم إنه يحتمل أن يكون معنى : (أدركت أبي) : أن الحج فرض وأبوها حي على تلك الحالة الموصوفة .

قلت : وهذا التأويل ، وإن قبله قولها : (أدركت) . فلا يقبله قولها في الرواية الأخرى : (عليه فريضة الحج) . لكن هذا كله منها ظن وحسبان ، ولا حجة في شيء من ذلك ، فإنها ظنت الأمر على خلاف ما هو عليه . ولا يقال : فقد أجابها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سؤالها ، ولو كان سؤالها غلطا لما أجابها عليه ، ولبينه لها ، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ، لأنا نقول : إنه لم يجبها على هذا القول ، بل على قولها : (أفأحج عنه؟) فقال لها : (نعم) . أو : (فحجي عنه) على اختلاف [ ص: 443 ] الرواية ، وإنما قال لها ذلك لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها ، فأجابها إلى ذلك . كما قال للأخرى التي قالت : إن أمي نذرت أن تحج ، فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها؟ فقال : (حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته عنها ؟) قالت : نعم ; ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوعات ، وإيصال الخير والبر للأموات . ألا ترى أنه قد شبه فعل الحج بالدين؟! وبالإجماع : لو مات ميت وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله ، فإن تطوع بذلك تأدى الدين عنه . ولا يبعد في كرم الله وفضله إذا حج الولي عن الميت الصرورة أن يعفو الله عن الميت بذلك ، ويثيبه عليه ، أو لا يطالبه بتفريطه . وقد تقدم الكلام على هذا المعنى في الصوم . ولم يتعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - لقولها ; لأنه فهم أن مرادها الاحتمال الذي قدمناه . والله تعالى أعلم .

قلت : وقد قال بعض أصحابنا - وهو أبو عمر بن عبد البر - : حديث الخثعمية عند مالك وأصحابه مخصوص بها . وقال آخرون : فيه اضطراب . قلت : وفي هذين القولين بعد . والصحيح ما قدمته . والله أعلم .

وقد قال بعض أصحابنا بموجب حديث الخثعمية فقال : لا تجوز النيابة في الحج إلا للابن عن أبيه خاصة . وفي هذا الحديث رد على الحسن بن حيي حيث قال : لا يجوز حج المرأة عن الرجل .

وقد اختلف العلماء في النيابة في الحج قديما وحديثا . فحكي عن النخعي [ ص: 444 ] وبعض السلف : لا يحج أحد عن أحد جملة من غير تفصيل . وحكي مثله عن مالك . وقال جمهور الفقهاء : يجوز أن يحج عن الميت ، عن فرضه ، ونذره ، وإن لم يوص به ، ويجزئ عنه . واختلف قول الشافعي - رحمه الله - في الإجزاء عن الفرض . ومذهب مالك ، والليث ، والحسن بن حيي : أنه لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام ، ولا ينوب عن فرضه . قال مالك : إذا أوصى به . وكذلك عنده يتطوع بالحج عن الميت إذا أوصى به . وأجاز أبو حنيفة ، والثوري وصية الصحيح بالحج عنه تطوعا . وروي مثله عن مالك .

وسبب الخلاف في هذه المسألة : ما قد أشرنا إليه من معارضة الظواهر بعضها بعضا ، ومعارضة القياس لتلك الظواهر ، واختلافهم في تصحيح حديثي جابر وابن عباس . فأما حديث جابر : فخرجه عبد الرزاق قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله يدخل بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة : الميت ، والحاج ، والمنفذ لذلك ) . في إسناده أبو معشر ; نجيح ، وأكثر الناس يضعفه ، ومع ضعفه يكتب حديثه .

وأما حديث ابن عباس : فخرجه أبو داود . قال فيه : سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقول : لبيك عن شبرمة . فقال : (من شبرمة ؟) قال : أخ لي ، أو قريب لي . فقال : (حججت عن نفسك ؟) قال : لا . قال : (حج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة ) . علله بعضهم : بأنه قد روي موقوفا ، والذي أسنده ثقة . وقد قال سفيان ، والحسن بن علي : لا يحج في الوصية بالحج من لم يحج عن نفسه ، أخذا بحديث [ ص: 445 ] شبرمة هذا . وقاله الشافعي فيمن حج عن ميت . وقال غير من ذكر : بجواز ذلك ، وإن كان الأولى هو الأول .

والجمهور على كراهية الإجارة في الحج . وقال أبو حنيفة : لا تجوز . وقال مالك والشافعي - في أحد قوليه - : لا تجوز ، فإن وقع مضى . وقال بعض أصحابنا بجواز ذلك ابتداء .

التالي السابق


الخدمات العلمية