المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2412 (57) باب

تحريم مكة وصيدها وشجرها ولقطتها

[ 1212 ] عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فتح مكة: " لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا" . وقال يوم الفتح فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، .........وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ...........ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه، ........... ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها". فقال العباس: يا رسول الله ، إلا الإذخر ، فإنه لقينهم ولبيوتهم ! فقال: "إلا الإذخر" .

رواه أحمد ( 1 \ 226 ) والبخاري ( 1834)، ومسلم ( 1353)، وأبو داود (2480)، والترمذي (1590)، والنسائي ( 7 \ 146).


[ ص: 468 ] (57) ومن باب: تحريم مكة

قوله " لا هجرة بعد الفتح " ، هذا رفع لما كان تقرر من وجوب الهجرة إلى المدينة على أهل مكة باتفاق وعلى غيرهم بخلاف ، ولم يتعرض هذا العموم لنفي هجرة الرجل بدينه ; إذ تلك الهجرة ثابتة إلى يوم القيامة ، وإنما رفع حكم الهجرة يوم الفتح لكثرة ناصري الإسلام ولظهور الدين وأمن الفتنة عليه .

وقوله " ولكن جهاد ونية " دليل على بقاء فرض الجهاد وتأبيده خلافا لمن أنكر فرضيته على ما يأتي .

وقوله " وإذا استنفرتم فانفروا " ; أي : طلب منكم الإمام النفير. وهو : الخروج إلى الغزو ، فحينئذ يتعين الغزو على من استنفر بلا خلاف.

وقوله " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة " ، معنى " حرمه الله " أي حرم على غير المحرم دخوله إلا أن يحرم . ويجري هذا مجرى قوله : حرمت عليكم أمهاتكم [النساء: 23] ; أي : وطؤهن . و حرمت عليكم الميتة [المائدة: 3] ; أي : أكلها . فعرف الاستعمال دل على تعيين المحذوف . وقد دل على صحة هذا المعنى [ ص: 469 ] اعتذاره - صلى الله عليه وسلم - عن دخول مكة غير محرم مقاتلا بقوله " إنها لم تحل لي إلا ساعة من نهار . . . " الحديث ، وبهذا أخذ مالك والشافعي - في أحد قوليهما - وكثير من أصحابهما ، فقالوا : لا يجوز لأحد أن يدخل مكة إلا محرما ، إلا أن يكون ممن يكثر التكرار إليها كالحطابين ونحوهم . وقد أجاز دخولها لغير المحرم ابن شهاب والحسن والقاسم ، وروي عن مالك والشافعي والليث ، وقال بذلك أبو حنيفة إلا لمن منزله وراء المواقيت ، فلا يدخلها إلا بإحرام ، واتفق الكل على أن من أراد الحج أو العمرة أنه لا يدخلها إلا محرما .

ثم اختلف أهل القول الأول فيمن دخلها غير محرم ; فقال مالك وأبو ثور والشافعي : أنه لا دم عليه ، وقال الثوري وعطاء والحسن بن حيي : يلزمه حج أو عمرة - ونحوه قال أبو حنيفة فيمن منزله وراء المواقيت .

ومتمسك من قال بجواز دخولها لغير المحرم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المواقيت المتقدم : " هن لهم ولكل آت أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج أو العمرة) ، وتأولوا الحديث المتقدم بأن قالوا : إنما اعتذر - صلى الله عليه وسلم - عن دخوله مكة مقاتلا كما قال : (فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . .) الحديث .

قال القاضي عياض : لم يختلف في دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أنه كان حلالا ; لدخوله والمغفر على رأسه ، ولأنه دخلها محاربا حاملا للسلاح هو وأصحابه . ولم يختلفوا في تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وكذلك لم يختلفوا في أن من دخلها لحرب أو لشيء أنه لا يحل له أن يدخلها حلالا .

وقوله " وإنه لم يحل القتال لأحد قبلي " ، الضمير في " أنه " هو ضمير الأمر والشأن ، وظاهر هذا أن حكم الله تعالى كان في مكة ألا يقاتل أهلها ويؤمن من [ ص: 470 ] استجار بها ولا يتعرض له ، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [آل عمران: 97] وهو قول قتادة وغيره . قالوا : هو آمن من الغارات . وهو ظاهر قوله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [العنكبوت: 67] وهو منقول من عادة العرب في احترامهم مكة ، ومن كتب التواريخ .

وقوله " ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام " ، الضمير في " يحل " هو ، وهو يعود على القتال قطعا كما يدل عليه مساقه ، فيلزم منه تحريم القتال فيه مطلقا ، سواء كان ساكنه مستحقا للقتال أو لم يكن ، وهو الذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار " .

وقوله " فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا : إن الله أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم " ، وهذا نص على الخصوصية واعتذار منه عما أبيح له من ذلك ، مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتل والقتال لصدهم عنه وإخراجهم أهله منه وكفرهم بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الذي فهمه أبو شريح من هذا الحديث . وقد قال بذلك غير واحد من أهل العلم ; منهم . . . ، غير أن هذا يعارضه ما جاء في حديث أبي شريح من قول عمرو بن سعيد على ما يأتي .

وقوله " لا يعضد شوكه " ، وفي حديث أبي هريرة " لا يختبط شوكه ، ولا يعضد شجره " ، يعضد : يقطع . والمعضد : الآلة التي يقطع بها . والخبط : ضرب أوراق الشجر بالعصي لعلف المواشي . يقال : خبط واختبط . والمصدر منه : [ ص: 471 ] خبطا - بسكون الباء ، والاسم بتحريكها .

و (الخلى) مقصور ، هو الرطب من الكلأ مقصورا مهموزا . والحشيش : هو اليابس منه ، والكلأ يقال على الخلى والحشيش . والشجر : ما كان على ساق . وفي بعض طرقه " شجراؤها " وهو جنس الشجر ، وهي العضاه أيضا في الحديث الآخر. والعضاه من شجر البادية : كل شجر له شوك . ومنه ما يسمى بـ (الكنهبل) و (السيال) ، ولهذا الحديث خص الفقهاء مطلق الشجر المنهي عن قطعه مما ينبته الله تعالى من غير صنع آدمي اتفاقا منهم ، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فيجوز قطعه .

ثم اختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول ; فقال مالك : لا جزاء فيه لعدم ما يدل على ذلك . وقال الشافعي وأبو حنيفة : فيه الجزاء - فعند أبي حنيفة تؤخذ قيمة ما قطع فيشترى بها هدي ، وعند الشافعي في الدوحة - وهي الشجرة العظيمة - بقرة وفيما دونها شاة. وأما قطع العشب للرعي فمنع ذلك أبو حنيفة ومحمد بن الحسن ، وأجازه غيرهما .

وقوله " ولا ينفر صيده " ; أي : لا يهاج عن حاله ولا يعرض له. قال عكرمة : هو أن ينحيه من الظل إلى الشمس - وقد تقدم القول فيه .

وقوله " ولا يلتقط لقطته إلا منشد " ، اتفق رواة المحدثين على ضم اللام وفتح القاف من اللقطة، هنا أرادوا به الشيء الملتقط ، وليس كذلك عند أهل اللسان ، قال الخليل : اللقطة بفتح القاف اسم للذي يلتقط ، وبسكونها لما يلتقط . قال الأزهري : هذا قياس اللغة ; لأن (فعلة) في كلامهم جاء فاعلا كالهزأة للذي يهزأ بالناس ، وجاء مفعولا كالهزأة للذي يهزأ به الناس ، إلا أن الرواة أجمعوا على أن اللقطة الشيء الملتقط . و (المنشد) : هو المعرف . و (الناشد) : هو الطالب والباغي ، كما قال :


أنشدوا الباغي يحب الوجدان

[ ص: 472 ] وقال الآخر :


إصاخة الناشد للمنشد

يقال : نشدت الضالة طلبتها ، وأنشدتها عرفتها . وأصل الإنشاد الصوت ، ومنه إنشاد الشعر . وقد أفاد ظاهر هذا الحديث وما في معناه أن للقطة مكة مزية على لقطة غيرها ، لكن اختلف العلماء في أي شيء تلك المزية ؟ فقالت طائفة : هي أنها لا تحل للملتقط بوجه من الوجوه ، ولا يزال يعرفها دائما . وممن ذهب إلى هذا : أبو عبيد ، والشافعي ، وابن مهدي ، والداودي ، والباجي ، وابن العربي من أصحابنا ، ويعتضدون بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن لقطة الحاج . وقالت طائفة أخرى : إن المزية هي أنها لا يحل التقاطها إلا إن سمع من ينشدها ، فيأخذها ويرفعها له . وذهب مالك في المشهور عنه إلى أن المزية أنها هي في زيادة التعريف والمبالغة فيها ، وحكمها وحكم غيرها من البلاد سواء ، وسيأتي بيان أحكامها ، والقول الأول أظهر من الأحاديث المذكورة في هذا الباب.

وقد فسر بعضهم المنشد بالطالب ، يعني به ربها ; أي لا تحل إلا له .

ويرجع هذا إلى القول الأول ، وقد تقدم أن المنشد هو المعرف على ما قال أبو عبيد وغيره .

و (الإذخر) : هو نبت له رائحة طيبة معروفة . وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في جواب [ ص: 473 ] العباس وقد سأله عن الإذخر " إلا الإذخر " دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فوضت إليه أحكام فكان يحكم فيها باجتهاده ، واستيفاء المسألة في الأصول . وقد يورد على هذا أن يقال : إذا كانت مكة مما حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فكيف لأحد أن يحكم بحلية شيء منها وقد حرمه الله ؟ والجواب أن الذي حرمه الله هو ما عدا المستثنى جملة ; لأنه لما جعل لنبيه التخصيص مع علمه بأنه يخصص كذا ، فالمحكوم به لله تعالى هو ما عدا ذلك المخصص ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية