المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2426 [ 1220 ] وعن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها . وقال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، .......... لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة .

وفي رواية : "ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء.

رواه أحمد ( 1 \ 169 )، ومسلم (1363).


وقوله " إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها ، أو يقتل صيدها " ، اللابة : الأرض ذات الحجارة ، وهي الحرة ، وجمعها في القلة : لابات ، وفي الكثرة : لاب ، ولوب . كـ (قارة) و (قور) و (ساحة) و (سوح) و (باحة) و (بوح) ، قاله ابن الأنباري . اللابتان : الحرتان الشرقية والغربية ، وللمدينة لابتان في القبلة والجرف ، وترجع إليهما الشرقية والغربية ، قال الهروي : [ ص: 481 ] يقال : ما بين لابتيها أجهل من فلان ; أي : ما بين طرفيها - يعني المدينة .

وهذا الحديث نص في تحريم صيد المدينة وقطع شجرها ، وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة وأصحابه في إباحة ذلك ، وإنكارهم على من قال بتحريم المدينة بناء منهم على أصلهم في ردهم أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى ، وقد تكلمنا معهم في هذا الأصل في باب أحداث الوضوء ، ولو سلم لهم ذلك جدلا فتحريم المدينة قد انتشر عند أهل المدينة والمحدثين وناقلي الأخبار حتى صار ذلك معلوما عندهم بحيث لا يشكون فيه ، والذي قصر بأبي حنيفة وأصحابه في ذلك قلة اشتغالهم بالحديث ونقل الأخبار ، وإلا فما الفرق بين الأحاديث الشاهدة بتحريم مكة وبين الشاهدة بتحريم المدينة في الشهرة ، ولو بحثوا عنها، وأمعنوا فيه حصل لهم منها مثل الحاصل لهم من أحاديث مكة .

والجمهور على أن صيدها لا جزاء فيه ; لعدم النص في ذلك ، ولم يتحققوا جامعا بين الصيدين فلم يلحقوه به ، وقد قال بوجوب الجزاء فيه ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى وابن نافع من أصحابنا ، واختلف قول الشافعي في ذلك . فأما الشجر : فيحرم قطعه منها أيضا ، وهو محمول على مثل ما حمل عليه شجر مكة ، وهو ما لم يعالج إنباته الآدمي ، ويدل على صحة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل المسجد ، وقد ذكر ابن نافع عن مالك أنه قال : إنما نهي عن قطع شجر المدينة لئلا تتوحش وليبقى فيها شجرها ; ليستأنس ويستظل به من هاجر إليها .

قلت : وعلى هذا فلا يقطع منها نخل ولا غيره ، وحينئذ تزول خصوصية ذكر العضاه وهو شجر البادية الذي ينبت لا بصنع آدمي ، والأول أولى ، والله تعالى أعلم .

وقوله " والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " ; يعني : للمرتحلين عنها إلى [ ص: 482 ] غيرها ، ويفسر هذا حديث سفيان بن زهير الآتي بعد هذا إن شاء الله تعالى .

وقوله " لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل فيها من هو خير منه . . . " إلى آخر الحديث ، " رغبة عنها " أي كراهية لها ، يقال : رغبت في الشيء - أحببته ، ورغبت عنه : كرهته .

وفي معنى هذا الحديث قولان ;

أحدهما: أن ذلك مخصوص بمدة حياته .

والثاني : أنه دائم أبدا .

ويشهد له قوله في حديث آخر " يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء ! والمدينة خير لهم " ، وذكر ما تقدم.

وقوله " لا يثبت أحد على لأوائها وشدتها " ، اللأواء - ممدود : هو الجوع وشدة الكسب فيها والمشقات . ويحتمل أن يعود الضمير في " شدتها " على اللأواء فإنها مؤنثة ، وعلى المدينة ، والأول أقرب .

وقوله " إلا كنت له شفيعا أو شهيدا " ، زعم قوم أن " أو " هنا شك من بعض الرواة وليس بصحيح ، فإنه قد رواه جماعة من الصحابة ومن الرواة كذلك على لفظ واحد ، ولو كان شكا لاستحال أن يتفق الكل عليه ، وإنما " أو " هنا للتقسيم والتنويع ، كما قال الشاعر :


فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما صدور رماح أشرعت أو سلاسل

ويكون المعنى : إن الصابر على شدة المدينة صنفان ; من يشفع له النبي - صلى الله عليه وسلم – [ ص: 483 ] من العصاة ، ومن يشهد له بما نال فيها من الشدة ليوفى أجره . وشفاعته - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت عامة للعصاة من أمته إلا أن العصاة من أهل المدينة لهم زيادة خصوص منها ، وذلك - والله تعالى أعلم - بأن يشفع لهم قبل أن يعذبوا بخلاف غيرهم ، أو يشفع في ترفيع درجاتهم أو في السبق إلى الجنة ، أو فيما شاء الله من ذلك .

وقوله " ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار " ، ظاهر هذا أن الله يعاقبه بذلك في النار ، ويحتمل أن يكون ذلك كناية عن إهلاكه في الدنيا أو عن توهين أمره وطمس كلمته كما قد فعل الله ذلك بمن غزاها، وقاتل أهلها فيمن تقدم ; كمسلم بن عقبة إذ أهلكه الله منصرفه عنها ، وكإهلاك يزيد بن معاوية إثر إغزائه أهل المدينة ، إلى غير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية