المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3287 (5) باب

تخصيص هذه الأمة بتحليل الغنائم

[ 1264 ] عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة ، وهو يريد أن يبني بها ، ولما يبن ،ولا آخر قد بنى بنيانا ، ولما يرفع سقفها ، ولا آخر قد اشترى غنما ، أو خلفات ، وهو منتظر ولادها. قال: فغزا ، فأدنى للقرية حين صلاة العصر ، أو قريبا من ذلك ، فقال للشمس: أنت مأمورة ، وأنا مأمور ، اللهم احبسها علي شيئا ، فحبست عليه حتى فتح الله عليه. قال: فجمعوا ما غنموا ، فأقبلت النار لتأكله ، فأبت أن تطعمه ، فقال: فيكم غلول ، وليبايعني من كل قبيلة رجل ، فبايعوه فلصقت يد رجل بيده ، فقال: فيكم الغلول ، فلتبايعني قبيلتك ، فبايعته ، قال: فلصق بيد رجلين أو ثلاثة ، فقال: فيكم الغلول ، أنتم غللتم ، قال: فأخرجوا له مثل رأس البقرة من ذهب ، قال: فوضعوه في المال وهو في الصعيد ، فأقبلت النار فأكلته ، فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ، ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا" .

رواه أحمد ( 2 \ 318 ) والبخاري (5157) ومسلم (1747) .


[ ص: 531 ] (5) ومن باب: تخصيص هذه الأمة بتحليل الغنائم

قول النبي المذكور في هذا الحديث - صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع النبيين -: ( لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة ، وهو يريد أن يبني بها ، ولما يبن ) ; البضع - بضم الباء - : كناية عن فرج المرأة ، وقد يكنى به عن النكاح نفسه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (وفي بضع أحدكم أهله صدقة) . والبضع - بفتح الباء- مصدر بضع اللحم ، يبضعه ; إذا قطعه . والبضع - بكسر الباء - : في العدد ما بين الثلاثة إلى التسعة . وقد تقدم تفسيره .

و ( الخلفات ) : جمع خلفة ، وهي الناقة التي دنا ولادها .

وإنما نهى هذا النبي قومه عن اتباعه على هذه الأحوال ; لأن أصحابها يكونون متعلقي النفوس بهذه الأسباب ، فتضعف عزائمهم ، وتفتر رغباتهم في الجهاد ، والشهادة ، وربما يفرط ذلك التعلق بصاحبه فيفضي به إلى كراهية الجهاد ، وأعمال الخير . وكأن مقصود هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتفرغوا من علق الدنيا ومهمات أغراضها ، إلى تمني الشهادة بنيات صادقة ، وعزوم جازمة ، صافية ، ليحصلوا على الحظ الأوفر ، والأجر الأكبر .

[ ص: 532 ] وقوله : ( فأدنى للقرية ) ; هكذا رواية جميع الرواة (أدنى) رباعيا .

قال القاضي أبو الفضل : فإما أن يكون تعدية (دنا) ; أي : قرب ، فمعناه : أدنى جيوشه وجموعه إليها ، أو يكون (أدنى) بمعنى : حان ; أي : قرب ، وحضر فتحها ، من قولهم : أدنت الناقة ; أي : إذا حان نتاجها ، ولم يقل في غير الناقة .

قلت : والذي يظهر لي : أن ذلك من باب : أنجد ، وأغار ، وأشهر ، وأظهر ; أي : دخل في هذه الأزمنة والأمكنة ، فيكون معنى (أدنى) أي : دخل في هذا الموضع الداني منها . والله تعالى أعلم .

وقوله للشمس : ( أنت مأمورة ) ; أي : مسخرة بأمر الله تعالى ، وهو كذلك أيضا ، وجميع الموجودات ، غير أن أمر الجمادات أمر تسخير وتكوين ، وأمر العقلاء أمر تكليف وتكوين . وحبس الشمس على هذا النبي من أعظم معجزاته ، وأخص كراماته . وقد اشتهر : أن الذي حبست عليه الشمس من الأنبياء هو : يوشع بن نون . وقد روي أن مثل هذه الآية كانت لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في موطنين :

أحدهما : في حفر الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر ، حتى غابت ، فردها الله تعالى عليه حتى صلى العصر . ذكر ذلك الطحاوي ، وقال : إن رواته كلهم ثقات .

والثانية : صبيحة الإسراء ، حين انتظروا العير التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصولها [ ص: 533 ] مع شروق الشمس . ذكره يونس بن بكير في زيادته في سير ابن إسحاق .

وقوله : ( فجمعوا ما غنموا ، فأقبلت النار لتأكله ، فأبت أن تطعمه ) ; كانت سنة الله تعالى في طوائف من بني إسرائيل أن يسوق لهم نارا ، فتأكل ما خلص من قربانهم ، وغنائمهم ، فكان ذلك الأكل علامة قبول ذلك المأكول . حكاه السدي وغيره ، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن في قوله تعالى : الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار [آل عمران : 183] ويدل على هذا أيضا : ظاهر الحديث ، وقد كان فيهم على ما حكاه ابن إسحاق نار تحكم بينهم عند تنازعهم ، فتأكل الظالم ، ولا تضر المظلوم . وقد رفع الله تعالى [ ص: 534 ] كل ذلك عن هذه الأمة ، وأحل لهم غنائمهم ، وقربانهم ، رفقا بهم ، ورحمة لهم ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا ) ، وجعل ذلك من خصائص هذه الأمة ; كما قال : ( فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا ) ، وقد جاء في الكتب القديمة : أن من خصائص هذه الأمة : أنهم يأكلون قربانهم في بطونهم . وما جرى لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قومه في أخذ الغلول آية شاهدة على صدقه ، وعلى عظيم مكانته عند ربه . وفي حديثه أبواب من الفقه لا تخفى على فطن . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية