المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3289 (6) باب

في قوله تعالى : يسألونك عن الأنفال

[ 1265 ] عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال: نزلت في أربع آيات: أصبت سيفا ، فأتيت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله ، نفلنيه ، قال: ضعه. ثم قام . فقال: نفلنيه يا رسول الله! أو أجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ضعه من حيث أخذته". قال: فنزلت هذه الآية: يسألونك عن الأنفال ......... قل الأنفال لله والرسول الآية [الأنفال: 1] .

رواه أحمد ( 1 \ 185 )، ومسلم (1748) (34)، وأبو داود (208)، والترمذي (3189).


(6) ومن باب: قوله تعالى : يسألونك عن الأنفال [الأنفال: 1]

قول سعد : ( نزلت في أربع آيات ) ، ولم يذكر غير آية واحدة هنا ، وقد جاءت الثلاثة الباقية مبينة في كتاب مسلم ، وسيأتي .

وقوله : ( نفلنيه ) ; أي : أعطني إياه . قال لبيد :


إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي والعجل

ومنه سمي الرجل نوفلا لكثرة عطائه. ويكون النفل أيضا: الزيادة. ومنه نوافل الصلوات ، وهي الزوائد على الفرائض .

[ ص: 535 ] وقوله : ( أو أجعل كمن لا غناء له ) ; الرواية الصحيحة بفتح الواو ، ومن سكنها غلط ; لأنها الواو الواقعة بعد همزة الاستفهام ، ولا تكون إلا مفتوحة . وأما (أو) الساكنة : فلا تكون إلا لأحد الشيئين. وهذا الاستفهام من سعد على جهة الاستبعاد والتعجب من أن ينزل من ليس في شجاعته منزلته ، لا على جهة الإنكار ، لأنه لا يصح ، ولا يحل الإنكار على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لا سيما ممن يكون في منزلة سعد ، ومعرفته بحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واحترامه له .

و ( الغناء ) بفتح الغين ، والمد : النفع . و (الغنى) - بكسر الغين والقصر - : كثرة المال .

وقوله : ( فنزلت هذه الآية : يسألونك عن الأنفال [الأنفال: 1] ; يقتضي أن يكون ثم سؤال عن حكم الأنفال ، ولم يكن هنالك سؤال عن ذلك على ما يقتضيه هذا الحديث ، ولذلك قال بعض أهل العلم : إن (عن) صلة . ولذلك قرأ ابن مسعود بغير (عن) : (يسألونك عن الأنفال) . وقال بعضهم : إن (عن) بمعنى (من) ; لأنه إنما سأل شيئا معينا ، وهو السيف ، وهو من الأنفال .

و (الأنفال) : جمع نفل - بفتح الفاء - ; كجمل وأجمال ، ولبن وألبان .

وقد اختلف في المراد بالأنفال هنا في الآية ; هل هي الغنائم ؟ لأنها عطايا ، أو هي مما ينفل من الخمس بعد القسم ؟ وكذلك اختلف في أخذ سعد لهذا السيف ; هل كان أخذه له من القبض قبل القسم ، أو بعد القسم ؟ وظاهر قوله : ( ضعه حيث أخذته ) : أنه قبل القسم; لأنه لو كان أخذه له بعد القسم لأمره أن يرده إلى من صار إليه في القسم .

[ ص: 536 ] وقوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول [الأنفال: 1]; ظاهره إن حملنا الأنفال على الغنائم ; أن الغنيمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليست مقسومة بين الغانمين . وبه قال ابن عباس وجماعة . ورأوا : أنها منسوخة بقوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية [الأنفال: 41]، وظاهرها : أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين . وقد روي عن ابن عباس أيضا : أنها محكمة ، غير منسوخة ، وأن للإمام أن ينفل من الغنائم ما شاء لمن شاء ; لما يراه من المصلحة . وقيل : هي مخصوصة بما شذ من المشركين إلى المسلمين من : عبد ، أو أمة ، أو دابة . وهو قول عطاء ، والحسن . وقيل : المراد بها : أنفال السرايا . والأولى : أن الأنفال المذكورة في هذه الآية هي ما ينفله الإمام من الخمس ; بدليل قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولا يصح الحكم بالنسخ ; إذ الجمع بين الآيتين ممكن ، ومتى أمكن الجمع فهو أولى من النسخ ، باتفاق الأصوليين . وقال مجاهد في الآية : إنها محكمة ، غير منسوخة ، وإن المراد بالأنفال : ما ينفله الإمام من الخمس . وعلى هذا : فلا نفل إلا من الخمس ، ولا يتعين الخمس إلا بعد قسمة الغنيمة خمسة أخماس ، وهو المعروف من مذهب مالك ، وقد روي عن مالك : أن الأنفال من خمس الخمس . وهو قول ابن المسيب ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، والطبري . وأجاز الشافعي النفل قبل إحراز الغنيمة ، وبعدها . وهو قول أبي ثور ، والأوزاعي ، وأحمد ، والحسن البصري .

وقوله تعالى : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [الأنفال: 1] ; أي : أصلحوا فيما بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله فيما أمركم [ ص: 537 ] به من الرضا بما قسم لكم إن كنتم محققين إيمانكم . وهذا يدل على أنهم وقع فيما بينهم شنآن ومنافرة بسبب الغنيمة . ويدل على هذا : ما رواه أبو أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال؟ فقال : فينا - أصحاب بدر - نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، وجعله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقسمه علينا على بواء ; أي : على سواء . وعن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر : (من فعل كذا ، فله كذا) ، فتسارع الشبان ، وثبت الشيوخ مع الرايات ، فلما فتح لهم ، جاء الشبان يطلبون ما جعل لهم ، فقال لهم الأشياخ : لا تذهبون به دوننا ، فقد كنا ردءا لكم ، فأنزل الله تعالى : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم

التالي السابق


الخدمات العلمية