المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3295 (7) باب

للإمام أن يخص القاتل بالسلب

[ 1269 ] عن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حنين ، فلما التقينا ، كانت للمسلمين جولة ، قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه ، فضربته على حبل عاتقه ، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب ، فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا ، وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: من قتل قتيلا له عليه بينة ، فله سلبه. قال: فقمت ، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست ، ثم قال مثل ذلك ، فقال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست ، ثم قال ذلك الثالثة ، فقمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا قتادة؟. فقصصت عليه القصة . فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله! سلب ذلك القتيل عندي ، فأرضه من حقه يا رسول الله ! وقال أبو بكر الصديق: لا ها الله إذا ، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق فأعطه إياه. فأعطاني ، قال: فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة ، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام .

وفي رواية : فقال أبو بكر: كلا لا نعطيه ، أضيبع من قريش وندع أسدا من أسد الله؟


رواه أحمد (5 \ 306) والبخاري (2100)، ومسلم (1751)، وأبو داود (2717)، والترمذي (1562)، وابن ماجه (2837).


(7) ومن باب: للإمام أن يخص القاتل بالسلب

( الجولة ) : الاضطراب . ويعني به : انهزام المنهزمة يوم حنين على ما يأتي .

و ( حبل العاتق ) : هو موصل ما بين العنق والكاهل . وقيل : هو حبل الوريد . والوريد : عرق بين الحلقوم والعلباوين .

وقوله : ( فضمني ضمة وجدت فيها ريح الموت ) ; أي : ضمة شديدة أشرف [ ص: 541 ] بسببها على الموت . وهي استعارة حسنة . وأصلها : أن من قرب من الشيء وجد ريحه .

وقوله : ( وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ) ; دليل : على أن هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - كان بعد أن برد القتال ، وأما قبل القتال فيكره مالك للإمام أن يقول مثل ذلك ; لئلا تفسد نية المجاهدين . وهل قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك القول مقعدا لقاعدة تمليك السلب للقاتل ، ومبينا لحكم الله تعالى في ذلك دائما ، وفي كل واقعة ؟ وإليه صار الليث ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والطبري ، والثوري ، وأبو ثور ، قالوا : السلب للقاتل ، قاله الإمام أو لم يقله ، غير أن الشافعي -رحمه الله- اشترط في ذلك : أن يقتله مقبلا . واشترط الأوزاعي أن يكون ذلك قبل التحام الحرب .

أو قاله - صلى الله عليه وسلم - على جهة أن يبين : أن للإمام أن يفعل ذلك إذا رآه مصلحة ؟ وإلى هذا ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، فقالا : إن السلب ليس بحق للقاتل ، وإنه من الغنيمة إلا أن يجعل الأمير ذلك له .

فأما الطائفة الأولى : فتمسكت بظاهر الحديث المتقدم ، وقصر الشافعي عموم قوله : ( من قتل قتيلا ) على نحو ما وقع لأبي قتادة ; فإنه قتل الكافر مقبلا ، ولذلك ضمه الضمة الشديدة ، وليس للأوزاعي على ما اشترط حجة من الحديث ، بل هو حجة عليه ; فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك بعد فراغ القتال .

وأما الطائفة الثانية : فإنهم ردوا ظاهر ذلك الحديث لما يعارضه ، وهو قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه [الأنفال: 41] فأضاف أربعة [ ص: 542 ] أخماس الغنيمة للغانمين ، ولا يصلح قوله : ( من قتل قتيلا فله سلبه ) للتخصيص ، للاحتمال الذي أبديناه . ومما تمسكوا به قضية أبي جهل الآتية بعد هذا ، وذلك : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لابني عفراء : (كلاكما قتله) ، ثم قضى بسلبه لأحدهما ، وهي نص في المقصود ، لا يقال : إن قضية أبي جهل متقدمة وقضية أبي قتادة متأخرة ، فتكون ناسخة ; لأنا لا نسلم التعارض لإمكان الجمع بين القضيتين ; لأن ذلك رأي رآه فيهما ، فاختلف الحال بحسب اختلاف الاجتهاد . والله تعالى أعلم .

ومما يعتضد به هؤلاء : أنه لو كان قوله : من قتل قتيلا فله سلبه ) مقعدا للقاعدة ، ومبينا لها ; لكان ذلك أمرا معمولا به عند الصحابة ، وخصوصا الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ، فإنهم كانوا حضورا في ذلك الموطن ، وقد انقرضت أعصارهم ، ولم يحكموا : بأن السلب للقاتل مطلقا ، على ما حكاه ابن أبي زيد في "مختصره". هذا مع كثرة وقائعهم في العدو ، وغنائمهم ، وعموم الحاجة إلى ذلك . فلما لم يكن ذلك كذلك ; صح أن يقال : إن ذلك موكول لرأي الإمام . والله تعالى أعلم .

تفريع : لا شك في أن من كان مذهبه : أن السلب للقاتل : أنه لا يخمسه ، وإنما يملكه بنفس القتل المشهود عليه ، وأما من صار إلى : أن ذلك للإمام يرى فيه رأيه ، فاختلفوا ; هل يخمس أو لا يخمس ؟ فقال مالك ، والأوزاعي ، ومكحول : يخمس . وقاله إسحاق إذا كثر . ونحوه عن عمر ، وحكى ابن خواز منداذ عن مالك : أن الإمام مخير في ذلك كله. قاله القاضي إسماعيل .

ثم اختلفوا في السلب الذي يستحقه القاتل . فذهب الأوزاعي ، وابن حبيب من أصحابنا إلى أنه فرسه الذي ركبه ، وكل شيء كان عليه من لبوس ، وسلاح ، وآلة ، وحلية له ولفرسه . غير أن ابن حبيب قال : إن المنطقة التي فيها دنانير [ ص: 543 ] ودراهم نفقة داخلة في السلب . ولم ير ذلك الأوزاعي . وقد عمل بقولهما جماعة من الصحابة . ونحوه مذهب الشافعي ، غير أنه تردد في السوارين ، والحلية ، وما في معناهما من غير حلية الحرب .

وذهب ابن عباس إلى أنه : الفرس ، والسلاح ، وهو معنى مذهب مالك . وشذ أحمد ، فلم ير الفرس من السلب ، ووقــف في السيف . وللشافعي قولان فيما وجد في عسكر العدو من أموال المقتول ; هل هو من سلبه أم لا ؟ والصحيح : العموم فيما كان معه ، تمسكا بالعموم . والله تعالى أعلم .

وقوله : ( له عليه بينة ) ; قال بظاهره الليث ، والشافعي ، وبعض أصحاب الحديث ، فلا يستحق القاتل السلب إلا بالبينة ، أو بشاهد ويمين. وقال الأوزاعي والليث : ليست البينة شرطا في الاستحقاق ، بل إن اتفق ذلك فهو الأولى دفعا للمنازعة ، وإن لم يتفق كان للقاتل بغير بينة ، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى أبا قتادة سلب مقتوله من غير شهادة ، ولا يمين . ولا يكفي شهادة واحد ، ولا يناط بها حكم بمجردها ، لا يقال : إنما أعطاه إياه بشهادة الذي هو في يده ، وشهادة أبي بكر ; لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يقم شهادة لأبي قتادة ، وإنما منع أن يدفع السلب للذي ذكر أنه في يده ، ويمنع منه أبو قتادة . ويخرج على أصول المالكية في هذه المسألة ، ومن قال بقولها : أنه لا يحتاج الإمام فيه إلى بينة ; لأنه من الإمام ابتداء عطية . فإن شرط فيه الشهادة كان له ، وإن لم يشترط ، جاز أن يعطيه من غير شهادة . والله تعالى أعلم .

[ ص: 544 ] وقوله : ( فأرضه من حقه يا رسول الله !) أي : أعطه ما يرضى به بدلا من حقه في السلب . فكأنه سأل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتركه له ، ويعطي أبا قتادة من غيره ما يرضى به .

وقول أبي بكر : ( لا ها الله إذا ) ; الرواية هكذا (إذا) بالتنوين . قال الخطابي : والصواب فيه : (لا ها الله ذا) بغير ألف قبل الذال . ومعناه في كلامهم : لا والله . يجعلون (الها) مكان (الواو) . والمعنى : لا والله لا يكون ذا . قال المازري : معناه : ذا يميني ، وذا قسمي . وقال أبو زيد : (ذا) صلة في الكلام .

وقوله : ( فبعت الدرع ، فاشتريت به مخرفا ) ، قال القاضي أبو الفضل : رويناه بفتح الميم ، وكسرها . فمن كسره جعله مثل : مربد . ومن فتح جعله مثل : مضرب .

والمخرف : البستان الذي تخترف ثماره ; أي : تجتنى. فأما المخرف - بكسر الميم - فهو : الوعاء الذي يجمع فيه ما يخترف .

و (تأثلت المال) : تملكته ، فجعلته أصل مالي . وأثلة كل شيء : أصله.

وقوله : ( كلا ، لا نعطيه أضيبع من قريش ) ; كلا : ردع ، وزجر. وقد تكون بمعنى : لا ; كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام : كلا [ ص: 545 ] في جواب قولهم : إنا لمدركون [الشعراء: 61] وقد يكون استفتاحا بمعنى : ألا ; كما قيل في قوله تعالى : كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين [المطففين: 18] و (أضيبع) روايتنا فيه - وهي المشهورة - بالضاد المعجمة ، والعين المهملة ; وهو تصغير ضبع على غير القياس . فكأنه لما وصف الآخر بالأسدية ، صغر هذا بالنسبة إليه ، وشبهه بالضبع تصغيرا له. ورواه السمرقندي : (أصيبغ) بالصاد المهملة ، والغين المعجمة ، فقيل : كأنه حقره ، وذمه لسواد لونه . وقال الخطابي : الأصيبغ نوع من الطير . قال : ويجوز أن يشبهه بنبات صغير ، يقال له : الصبغاء ، أول ما تطلع من الأرض فيكون ما يلي الشمس منه أصفر . وقال الهروي بمعناه.

ومبادرة أبي بكر بالفتيا والردع والنهي بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، وتصديقه على قوله ، شرف عظيم ، وخصوصية لأبي بكر رضي الله عنه ليس لأحد من الصحابة مثلها ، هذا مع أنه قد كان عدد من الصحابة نحو الأربعة عشر يفتون في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يعلم بهم ، ويقرهم ، لكن لم يسمع عن أحد منهم أنه أفتى بحضرته ، ولا صدر عنه شيء مما صدر عن أبي بكر في هذه القضية.

وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى على متأمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية