المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3296 (8) باب

لا يستحق القاتل السلب بنفس القتل

[ 1271 ] عن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر ، نظرت عن يميني وشمالي ، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار ، حديثة أسنانهما ، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما ، فغمزني أحدهما فقال: يا عم ، هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم ، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، قال: فتعجبت لذلك ، فغمزني الآخر فقال مثلها ، قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس ، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه ، قال: فابتدراه ، فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه فقال: أيكما قتله؟. فقال كل واحد منهما: أنا قتلته ، فقال: هل مسحتما سيفيكما؟. قالا: لا ، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله. وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء .

رواه أحمد ( 1 \ 192 - 193) والبخاري (3141)، ومسلم (1752).


(8) ومن باب: لا يستحق القاتل السلب بنفس القتل

قوله : ( تمنيت لو كنت بين أضلع منهما ) ; كذا الرواية ، بالضاد المعجمة ، والعين المهملة ، ووقع في بعض روايات البخاري : (أصلح) بالحاء ، والصاد ، مهملتين ، من الصلاح ، والأول أصوب . ومعنى (أضلع) : أقوى ، والضلاعة : [ ص: 548 ] القوة . ومنه قولهم : هل يدرك الظالع شأو الضليع - بالضاد - ; أي : القوي ، والظالع - بالظاء المشالة - : هو الذي أصابه الظلع ، وهو ألم يأخذ الدابة في بعض قوائمها . وكأنه استضعفهما لصغر أسنانهما.

وقوله : ( لا يفارق سوادي سواده ) ; أي : شخصي شخصه . وأصله : أن الشخص يرى على البعد أسود . والله تعالى أعلم .

وقوله : ( حتى يموت الأعجل منا ) ; أي : الأقرب أجلا ، وهو كلام مستعمل يفهم منه : أنه يلازمه ، ولا يتركه إلى وقوع الموت بأحدهما . وصدور مثل هذا الكلام في حالة الغضب والانزعاج يدل على صحة العقل ، وثبوت الفهم ، والتثبت العظيم في النظر في العواقب ; فإن مقتضى الغضب أن يقول : حتى أقتله ; لكن العاقبة مجهولة .

وقوله : ( فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس ) ; معنى لم أنشب : لم أشتغل بشيء . وهو من : نشب بالشيء ; إذا دخل فيه ، وتعلق به . و (يزول) ; أي : يجول ويضطرب في المواضع ، ولا يستقر على حال . وهو فعل من يعبئ الناس ، ويحرضهم . أو فعل من أخذه الزويل ، وهو : الفزع والقلق . والأول أولى ; لرواية ابن ماهان لهذا الحرف : (يجول) بالجيم .

[ ص: 549 ] وقوله : ( هل مسحتما سيفيكما ؟ قالا : لا ، فنظر في السيفين فقال : كلاكما قتله ) ; هذا يدل على: أن للإمام أن ينظر في شواهد الأحوال ليترجح عنده قول أحد المتداعيين ، وذلك أن سؤاله عن مسح السيفين إنما كان لينظر إن كان تعلق بأحدهما من أثر الطعام أو الدم ما لم يتعلق بالآخر ، فيقضي له ، فلما رأى تساوي سيفيهما في ذلك قال : ( كلاكما قتله ) ، ومع ذلك فقضى بالسلب لأحدهما ، فكان ذلك أدل دليل على صحة ما قدمناه من مذهب مالك ، وأبي حنيفة . وقد اعتذر المخالفون عن هذا الحديث بأوجه :

منها : أن هذا منسوخ بما قاله يوم حنين . وهو فاسد لوجهين :

أحدهما : أن الجمع بينهما ممكن . كما قدمناه ، فلا نسخ .

والثاني : أنه قد روى أهل السير وغيرهم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر : ( من قتل قتيلا فله سلبه ) ; كما قال يوم حنين . وغايته : أن يكون من باب تخصيص العموم على ما قلناه .

ومنها : أن بعض الشافعية قال : إنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ; لأنه استطاب نفس أحدهما . وهذا كلام غير محصل ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيب الأنفس بما لا يحل . ثم كيف يستطيب نفس هذا بإفساد قلب الآخر ؟ هذا مما لا يليق بذوي المروءات ، فكيف بخاتم النبوات ؟!

ومنها : أنه لعله أن يكون رأى على سيف أحدهما من الأثر ما لم ير على الآخر ، فأعطاه السلب لذلك ، وقال : ( كلاكما قتله ) تطييبا لقلب الآخر. وهذا [ ص: 550 ] يبطله قوله : ( كلاكما قتله ) . والقتل هو السبب عند القائل . وظاهره التسوية في القتل ; فإن القائل إذا قال لمخاطبيه : كلاكما قال ، أو كلاكما خرج ، فظاهره المشاركة فيما نسب إليهما . ثم يلزم هذا القائل أن يجوز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التورية في الأحكام . والقول بذلك باطل ، وحرام .

وقوله : ( والرجلان : معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء ) ; هكذا الصحيح ، وقد جاء في البخاري من حديث ابن مسعود : أن ابني عفراء ضرباه حتى برك . وكأن هذا وهم من بعض الرواة لحديث ابن مسعود . وسبب هذا الوهم : أن عفراء هذه من بني النجار ، أسلمت وبايعت ، وكان أولادها سبعة ، كلهم شهد بدرا ، وكانت عند الحارث بن رفاعة ، فولدت له : معاذا ، ومعوذا ، ثم طلقها ، فتزوجها بكير بن عبد ياليل ، فولدت له : خالدا ، وإياسا ، وعاقلا ، وعامرا ، ثم راجعها الحارث ، فولدت له عوفا ، فشهدوا كلهم بدرا . فكأنه التبس على بعض الرواة معاذ بن عمرو بن الجموح بمعاذ بن عفراء وبمعوذ بن عفراء عند السكوت عن ذكر عمرو والد معاذ . والله تعالى أعلم .

وفي البخاري ومسلم : أن ابن مسعود هو الذي أجهز على أبي جهل [ ص: 551 ] واحتز رأسه بعد أن جرى له معه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية