المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3302 (11) باب

بيان ما يصرف فيه الفيء والخمس

[ 1277 ] عن مالك بن أوس قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب ، فجئته حين تعالى النهار قال: فوجدته في بيته جالسا على سرير ، مفضيا إلى رماله ، متكئا على وسادة من أدم ، فقال لي: يا مال! إنه قد دف أهل أبيات من قومك ، وقد أمرت فيهم برضخ ، فخذه فاقسمه بينهم. قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري؟ قال: خذ يا مال! قال: فجاء يرفا فقال: هل لك يا أمير المؤمنين! في عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد؟ فقال عمر: نعم ، فأذن لهم ، فدخلوا ، ثم جاء فقال: هل لك في عباس ، وعلي؟ قال: نعم ، فأذن لهما ، فقال عباس: يا أمير المؤمنين! اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن ، فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين! فاقض بينهم وأرحهم ، فقال مالك بن أوس: فخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك ، فقال عمر: اتئدا ، أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا نورث ، ما تركنا صدقة؟" قالوا: نعم ، ثم أقبل على العباس ، وعلي ، فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا نورث ، ما تركنا صدقة؟" قالا: نعم ، فقال عمر: إن الله كان خص رسوله -صلى الله عليه وسلم- بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره ، قال: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول [الحشر: 7] ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا ، قال: فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينكم أموالبني النضير ، فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم ، حتى بقي هذا المال ، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذ منه نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقي أسوة المال ، ثم قال: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم ، ثم نشد عليا وعباسا ، بمثل ما نشد به القوم: أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم ، قال: فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ، فقال أبو بكر: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نورث ، ما تركنا صدقة". فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا ، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا ، والله يعلم إني لصادق بار تابع للحق فوليتها ، ثم جئتني أنت وهذا وأنتما جميع ، وأمركما واحد ، فقلتم: ادفعها إلينا ، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فأخذتماها بذلك ، قال: أكذلك؟ قالا: نعم ، قال: ثم جئتماني لأقضي بينكما ، ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فرداها إلي .

رواه أحمد ( 1 \ 25 )، والبخاري ( 5357)، ومسلم (1757) (49)، وأبو داود (2964)، والترمذي (1610)، والنسائي ( 7 \ 136 - 137).


[ ص: 560 ] (11) ومن باب: ما يصرف فيه الفيء والخمس

( تعالى النهار ) : ارتفع . و ( مفضيا إلى رماله ) ; أي : لم يكن بينه وبين الحصير حائل يقيه آثار عيدانه ، ورمال الحصير : ما يؤثر في جنب المضطجع عليه . ورملت الحصير : نسجته ، وقد تقدم .

و ( مال ) ترخيم مالك في النداء . و ( دف أهل أبيات ) ; أي : نزلوا بهم مسرعين ، محتاجين . وأصله من الدفيف ، وهو : السير السريع ، وكأن الذي تنزل به فاقة يسرع المشي لتنجلي عنه .

و ( الرضخ ) - بسكون الضاد - : هو العطية القليلة ، غير المقدرة .

و ( يرفى ) مقصور ، وهو مولى عمر وآذنه .

وقوله : ( هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان ، وعبد الرحمن ؟) في الكلام حذف ، تقديره : هل لك إذن في هؤلاء ؟

وقول العباس : (اقض بيني وبين هذا الكاذب ، الآثم ، الغادر ، الخائن ) ; قول [ ص: 561 ] لم يرد به ظاهره ; لأن عليا رضي الله عنه منزه عن ذلك كله ، مبرأ عنه قطعا ، ولو أراد ظاهره لكان محرما ، ولاستحال على عمر ، وعثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد ، وهم المشهود لهم بالقيام بالحق وعدم المبالاة بمن يخالفهم فيه ، فكيف يجوز عليهم الإقرار على المنكر ؟! هذا ما لا يصح ; وإنما هذا قول أخرجه من العباس الغضب ، وصولة سلطنة العمومة ، فإن العم صنو الأب ، ولا شك أن الأب إذا أطلق هذه الألفاظ على ولده ; إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ ، والردع مبالغة في تأديبه ، لا أنه موصوف بتلك الأمور ، ثم انضاف إلى هذا : أنهم في محاجة ولاية دينية ، فكأن العباس يعتقد : أن مخالفته فيها لا تجوز ، وأن المخالفة فيها تؤدي إلى أن يتصف المخالف بتلك الأمور ، فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه ، ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروه . والله تعالى أعلم .

وهذا التأويل أشبه ما ذكر في ذلك ، وإلا فتطريق الغلط لبعض النقلة لهذه القضية فيه بعد لحفظهم ، وشهرتهم ، والذي اضطرنا إلى تقدير أحد الأمرين ما نعلمه من أحوال تلك الجماعة ، ومن عظيم منازلهم في الدين ، والورع ، والفضل . كيف لا ، وهم من هم رضي الله عنهم ، وحشرنا في زمرتهم .

و ( أجل ) بمعنى : نعم . و ( اتئدوا ) بمعنى : تثبتوا ، وارفقوا .

وقول عمر : ( أنشدكم الله ) ; أي : أقسم عليكم بالله ، يخاطب الحاضرين .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا نورث ، ما تركنا صدقة ) ; جميع الرواة لهذه اللفظة في "الصحيحين" وفي غيرهما يقولون : (لا نورث) - بالنون - ، وهي نون جماعة الأنبياء ، كما قال : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) .

و ( صدقة ) : مرفوع على أنه : خبر [ ص: 562 ] المبتدأ الذي هو : ( ما تركنا ) ، والكلام جملتان : الأولى : فعلية ، والثانية : اسمية . لا خلاف بين المحدثين في هذا . وقد صحفه بعض الشيعة ، فقال : (لا يورث - بالياء - ما تركنا صدقة) - بالنصب - ، وجعل الكلام جملة واحدة ، على أن يجعل (ما) مفعولا لما لم يسم فاعله . و ( صدقة ) ينصب على الحال . ويكون معنى الكلام : إنما نتركه صدقة لا يورث ، وإنما فعلوا هذا ، واقتحموا هذا المحرم ، لما يلزمهم على رواية الجمهور من إفساد قولهم ، ومذهبهم ، أنهم يقولون : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - : يورث كما يورث غيره ، متمسكين بعموم آية المواريث ، معرضين عما كان معلوما عند الصحابة من الحديث الذي يدل على خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - : بأنه لا يورث .

وقد حكى الخطابي حكاية تدل على صحة مذهب أهل السنة ، وعلى بطلان مذهب أهل البدع : حكي عن ابن الأعرابي : أن أبا العباس السفاح قام في أول مقام قامه خطيبا في قرية تسمى : العباسية بالأنبار ، فحمد الله وأثنى عليه ، فلما جاء عند الفراغ ، قام إليه رجل ، وفي عنقه المصحف ، فقال : يا أمير المؤمنين! أذكرك الله الذي ذكرته إلا ما قضيت لي على خصمي بما في كتاب الله . فقال : ومن خصمك ؟ قال : أبو بكر الذي منع فاطمة فدك . فقال : هل كان بعده أحد ؟ قال : نعم . قال : ومن ؟ قال : عمر . قال : فأقام على ظلمكم ؟ قال : نعم. قال : فهل كان بعده أحد ؟ قال : نعم . قال : فمن ؟ قال : عثمان . قال : فأقام على ظلمكم ؟ قال : نعم . قال : فهل كان بعده أحد ؟ قال : نعم. قال : فمن ؟ قال : علي بن أبي طالب . قال : فأقام على ظلمكم ؟ قال : فأسكت الرجل ، وجعل يلتفت يمينا وشمالا يطلب مخلصا . فقال أبو العباس : والله الذي لا إله إلا هو لولا أنه أول مقام قمته ، ولم أكن تقدمت إليك ، لأخذت الذي فيه عيناك ، اجلس . ثم أخذ في خطبته .

[ ص: 563 ] وحاصل هذه الحكاية : أن الخلفاء رضي الله عنهم علموا وتحققوا صحة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا نورث ، ما تركنا صدقة ) ، وعملوا على ذلك إلى أن انقرضت أزمانهم الكريمة بلا خلاف في ذلك .

فأما طلب فاطمة ميراثها من أبيها من أبي بكر ، فكان ذلك قبل أن تسمع الحديث الذي دل على خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وكانت متمسكة بما في كتاب الله من ذلك ، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقــفت عن ذلك ، ولم تعد عليه بطلب ، وأما منازعة علي والعباس ، فلم تكن في أصل الميراث ، ولا طلبا أن يتملكا ما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - من أموال بني النضير لأربعة أوجه :

أحدها : أنهما قد كانا ترافعا إلى أبي بكر في ذلك ، فمنعهما أبو بكر مستدلا بالحديث الذي تقدم ، فلما سمعاه أذعنا ، وسكنا ، وسلما ، إلى أن توفي أبو بكر ، وولي عمر ، فجاءاه ، فسألاه أن يوليهما على النظر فيها ، والعمل بأحكامها ، وأخذها من وجوهها ، وصرفها في مواضعها ، فدفعها إليهما على ذلك ، وعلى ألا ينفرد أحدهما عن الآخر بعمل حتى يستشيره ، ويكون معه فيه ، فعملا كذلك إلى أن شق عليهما العمل فيها مجتمعين ، فإنهما كانا بحيث لا يقدر أحدهما أن يستقل بأدنى عمل حتى يحضر الآخر ، ويساعده ، فلما شق عليهما ذلك ، جاءا إلى عمر رضي الله عنه ثانية ، وهي هذه الكرة التي ذكرت هنا ، يطلبان منه أن يقسمها بينهما ، حتى يستقل كل واحد منهما بالنظر فيما يكون في يديه منها ، فأبى عليهما عمر ذلك ، وخاف إن فعل ذلك أن يظن ظان أن ذلك قسمة ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيعتقد بطلان قوله : ( لا نورث ) ، لا سيما لو قسمها نصفين ، (فإن ذلك كان يكون موافقا لسنة القسم في المواريث ; فإن من ترك بنتا ، وعما ، كان المال بينهما نصفين) : للبنت النصف بالفرض ، وللعم النصف بالتعصيب . فمنع ذلك عمر [ ص: 564 ] حسما للذريعة ، وخوفا من ذهاب حكم قوله : ( لا نورث ) .

والوجه الثاني : أن عليا لما ولي الخلافة لم يغيرها عما عمل فيها في عهد أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، ولم يتعرض لتملكها ، ولا لقسمة شيء منها ، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها ، ثم كانت بيد حسن بن علي ، ثم بيد حسين بن علي ، ثم بيد علي بن الحسين ، ثم بيد الحسين بن الحسن ، ثم بيد زيد بن الحسن ، ثم بيد عبد الله بن الحسن ، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر البرقاني في " صحيحه". وهؤلاء كبراء أهل البيت رضي الله عنهم ، وهم معتمد الشيعة وأئمتهم ، لم يرو عن واحد منهم : أنه تملكها ، ولا ورثها ، ولا ورثت عنه ، فلو كان ما يقوله الشيعة حقا لأخذها علي ، أو أحد من أهل بيته لما ظفروا بها ، ولم فلا .

والوجه الثالث : اعتراف علي والعباس بصحة قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا نورث ، ما تركنا صدقة ) ، وبعلم ذلك حين سألهما عن علم ذلك ، ثم إنهما أذعنا ، وسلما ، ولم يبديا - ولا أحد منهما - في ذلك اعتراضا ، ولا مدفعا ، ولا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول : إنهما اتقيا على أنفسهما ، لما يعلم من صلابتهما في الدين ، وقوتهما فيه ، ولما يعلم من عدل عمر ، وأيضا : فإن المحل محل مناظرة ، ومباحثة عن حكم مال من الأموال ، ليس فيه ما يفضي إلى شيء مما يقوله أهل الهذيان من الشيعة . ثم الذي يقطع دابر العناد ما ذكرناه من تمكن علي وأهل بيته من الميراث ، ولم يأخذوه ، كما قلناه.

والوجه الرابع : نص قول عمر لهما ، وحكايته عنهما في آخر الحديث ، حيث قال لهما : ( ثم جئتني أنت وهذا ، وأنتما جميع ، وأمركما واحد ، فقلتم : ادفعها [ ص: 565 ] إلينا ، فقلت : إن شئتم دفعتها إليكما ، على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذتماها بذلك ، قال : أكذلك ؟ قالا : نعم ) . وهذه نصوص منهم على صحة ما ذكره.

وإنما طولنا الكلام في هذا الموضع لاستشكال كثير من الناس لهذا الحديث ، وللآتي بعده ، ولخوض الشيعة في هذا الموضع ، ولتقولهم فيه بالعظائم على الخلفاء البررة الحنفاء .

وقول عمر : ( إن الله خص رسوله بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره ) . يعني بذلك أن الله جعل النظر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون غيره ممن كان معه من ذلك الجيش ، كما رواه ابن وهب عن مالك ، ورواه أيضا ابن القاسم عنه.

[ ص: 566 ] وقول عمر : ( والله لا أقضي بينكما بغير ذلك ) ; أي : لا أولي أحدكما على جزء منها ، والآخر على جزء آخر . وهذا هو الذي طلبا على ما قررناه .

وقوله : ( فإن عجزتما عنها ) ; أي : عن القيام بها مجتمعين ، كما قررناه .

وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى على متأمل فطن .

التالي السابق


الخدمات العلمية