المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3304 (12) باب

تصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما وصل إليه من الفيء ومن سهمه

[ 1278 ] عن عائشة أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما أفاء الله عليه بالمدينة من الفيء ، وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا نورث ، ما تركنا صدقة. إنما يأكل آل محمد -صلى الله عليه وسلم- في هذا المال" ، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن حالها التي كانت عليها، في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، قال: فهجرته ، فلم تكلمه حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وصلى عليها علي ، وكان لعلي من الناس جهة حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ، ولم يكن بايع تلك الأشهر ، فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد كراهية محضر عمر بن الخطاب ، فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك ، فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي ؟ إني والله لآتينهم ، فدخل عليهم أبو بكر ، فتشهد علي بن أبي طالب ، ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك ، وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نحن نرى لنا حقا لقرابتنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر ، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده ، لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي أن أصل من قرابتي ، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال ، فإني لم آل فيها عن الحق ، ولم أترك أمرا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنعه فيها إلا صنعته ، فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة ، فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر ، رقي على المنبر ، فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة ، وعذره بالذي اعتذر إليه ، ثم استغفر وتشهد علي بن أبي طالب ، فعظم حق أبي بكر ، وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ، ولا إنكارا للذي فضله الله به ، ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيبا ، فاستبد علينا به ، فوجدنا في أنفسنا ، فسر بذلك المسلمون. وقالوا: أصبت ، فكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع الأمر بالمعروف .

وفي رواية: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر ، وفدك ، وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال: لست تاركا شيئا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس ، فغلبه عليها علي ، وأما خيبر وفدك ، فأمسكهما عمر ، وقال: هما صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، كانتا لحقوقه التي تعروه ، ونوائبه ، وأمرهما إلى من ولي الأمر ، قال: فهما على ذلك إلى اليوم .


رواه أحمد ( 1 \ 10 )، والبخاري (4240) و (4241)، ومسلم (1759) (52 و 54)، وأبو داود (2968).


[ ص: 567 ] (12) ومن باب: تصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

بما وصل إليه من الفيء والخمس

سيأتي العذر لفاطمة عن طلبها ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا.

وقوله : ( مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك ) ; كانت الأراضي التي تصدق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصيرت إليه بثلاثة طرق :

أحدها : ما وصى له به عند موته مخيريق اليهودي لما أسلم يوم أحد ، وكانت سبعة حوائط في بني النضير . وما أعطاه الأنصار من أرضيهم .

والثاني : حقه من الفيء من سائر أرض بني النضير ، حين أجلاهم ، وكذلك نصف أرض فدك ، صالح أهلها على النصف بعد حنين ، وكذلك ثلث أرض وادي القرى ، صالح عليه يهود ، وكذلك حصنان من حصون خيبر : الوطيح ، والسلالم : أحدهما صلح ، وأجلى أهلها .

والثالث : سهمه من خمس خيبر ، وما افتتح منه عنوة ، وهو حصن الكتيبة ، خرج كله في خمس الغنيمة منها ، وأقسم الناس سائرها ; حكاه أبو الفضل عياض .

فهذه الأراضي التي وصلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان يأخذ منها حاجة عياله ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين . وهي التي تصدق بها ، حيث قال : (ما تركت [ ص: 568 ] بعد نفقة نسائي ، ومؤونة عاملي فهو صدقة) . فلما مات - صلى الله عليه وسلم - عمل فيه أبو بكر رضي الله عنه كذلك ، ثم عمر ، ثم عثمان ، غير أنه يروى : أن عثمان أقطع مروان فدك ، وهو مما نقم على عثمان . قال الخطابي : لعل عثمان تأول قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده) ، فلما استغنى عثمان عنها بماله ، جعلها لأقربائه .

قلت : وأولى من هذا : أن يقال : لعل عثمان دفعها له على جهة المساقاة ، وخفي وجه ذلك على الراوي ، فقال : أقطع . والله تعالى أعلم .

وقوله : ( إنما يأكل آل محمد في هذا المال ) ; يعني هنا بآل محمد : نساءه ، كما قال في الحديث الآخر : (ما تركت بعد نفقة نسائي) .

وقوله : ( فأبى أبو بكر أن يدفع لفاطمة شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته ، فلم تكلمه ) ; لا يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها اتهمت أبا بكر فيما ذكره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكنها رضي الله عنها عظم عليها ترك العمل بالقاعدة الكلية ، المقررة بالميراث ، المنصوصة في القرآن ، وجوزت السهو والغلط على أبي بكر ، ثم إنها لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، [ ص: 569 ] ولملازمتها بيتها ، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران ، وإلا فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم ، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسيدة نساء أهل الجنة ؟

ودفن علي لفاطمة ليلا ، يحتمل أن يكون ذلك مبالغة في صيانتها ، وكونه لم يؤذن أبا بكر بها ; لعله إنما لم يفعل ذلك لأن غيره قد كفاه ذلك ، أو خاف أن يكون ذلك من باب النعي المنهي عنه ، وليس في الخبر ما يدل على : أن أبا بكر لم يعلم بموتها ، ولا صلى عليها ، ولا شاهد جنازتها ، بل اللائق بهم ، المناسب لأحوالهم حضور جنازتها ، واغتنام بركتها ، ولا تسمع أكاذيب الرافضة المبطلين ، الضالين ، المضلين.

وقوله : ( وكان لعلي من الناس جهة حياة فاطمة ) ; جهة ; أي : جاه واحترام ، كان الناس يحترمون عليا في حياتها كرامة لها ; لأنها بضعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مباشر لها ، فلما ماتت وهو لم يبايع أبا بكر ، انصرف الناس عن ذلك الاحترام ، ليدخل فيما دخل فيه الناس ، ولا يفرق جماعتهم . ألا ترى أنه لما بايع أبا بكر أقبل الناس عليه بكل إكرام وإعظام ؟!

وقوله : ( ولم يكن علي بايع تلك الأشهر ) ; يعني : الستة الأشهر التي عاشتها [ ص: 570 ] فاطمة رضي الله عنها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يظن بعلي أنه خالف الناس في البيعة ، لكنه تأخر عن الناس لمانع منعه ، وهو الموجدة التي وجدها حين استبد بمثل هذا الأمر العظيم ، ولم ينتظر مع أنه كان أحق الناس بحضوره ، وبمشورته لكن العذر للمبايعين لأبي بكر على ذلك الاستعجال مخافة ثوران الفتنة بين المهاجرين والأنصار ، كما هو معروف في حديث السقيفة ، فسابقوا الفتنة ، فلم يتأت لهم انتظاره لذلك ، وقد جرى بينهم في هذا المجلس من المحاورة [ ص: 571 ] والمكالمة ، والإنصاف ما يدل : على معرفة بعضهم بفضل بعض ، وأن قلوبهم متفقة على احترام بعضهم لبعض ، ومحبة بعضهم لبعض ما يشرق به الرافضي اللعين ، وتشرق قلوب أهل الدين .

والنفاسة هنا : الحسد . و ( أزيغ ) : أميل عن الحق .

وقوله : ( فغلبه عليها علي ) ; يعني : على الولاية عليها ، والقيام بها . وكأن العباس رأى عليا أقوى عليها ، وأضلع بها ، فلم يعرض له بسببها ، فعبر الراوي عن هذا بالغلبة ، وفيه بعد .

و ( تعروه ) : تنزل به .

وقوله : ( قال : فهما على ذلك إلى اليوم ) ; يعني : إلى يوم حدث الراوي بهذا الحديث ، وقد ذكرنا زيادة البرقاني في هذا المعنى .

وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى .

التالي السابق


الخدمات العلمية