المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3310 (14) باب

في المن على الأسارى

[ 1281 ] عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة ، يقال له: ثمامة بن أثال ، سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟. فقال: عندي يا محمد خير ، إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فتركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان الغد ثم قال له : "ما عندك يا ثمامة؟. قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟. فقال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، يا محمد ، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ قال: لا ، ولكني أسلمت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .

رواه أحمد ( 2 \ 452 ) والبخاري (462) ومسلم (1764) (59)، وأبو داود (2679) والنسائي ( 1 \ 110 ).


(14) ومن باب: المن على الأسارى

( النجد ) : المرتفع من الأرض ، والغور : ما انخفض منها . و ( أثال) : أبو ثمامة - بضم الهمزة فيما أعلم - .

وقوله : ( فربطوه بسارية من سواري المسجد ) ; بهذا تمسك الشافعي على جواز دخول الكفار المساجد ، واستثنى من ذلك مسجد مكة وحرمها . وخص أبو حنيفة هذا الحكم بأهل الكتاب لا غير . ومنع مالك رحمه الله دخول الكفار جميع المساجد والحرم . وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، والمزني . ويستدل لهم بقوله تعالى : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام [التوبة: 28] ووجه التمسك بها : أنه نبه على أن منعهم دخول المسجد الحرام إنما كان [ ص: 584 ] لنجاستهم ، وهذا يقتضي تنزيه المساجد عنهم ، كما تنزه عن سائر الأنجاس .

والشافعي يحمل النجس هنا على عين المشرك . ومالك يحمله على أنه نجس بما يخالطه من النجاسة ; إذ كان لا ينفك عنها ، ولا يتحرز منها ، وبقوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه [النور: 36] ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : (إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والقذر) .

والكافر لا يخلو عن ذلك . وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : (لا أحل المسجد لحائض ، ولا جنب) . والكافر جنب.

وإن كانت امرأة فعليها الغسل من الحيض ، لا سيما إذا قلنا : إنهم مخاطبون بالفروع . وقد اعتذر أصحابنا عن حديث ثمامة بأوجه :

أحدها : أن ذلك كان متقدما على قوله تعالى : إنما المشركون نجس وهذا يحتاج إلى تحقيق نقل التواريخ .

وثانيها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد علم بإسلامه . وهذا فيه بعد ; فإنه نص في الحديث على أنه إنما أسلم بعد أن من عليه ، وأطلقه ، ثم إنه رجع فأسلم .

وثالثها : أن هذه قضية في عين ، فلا ينبغي أن ترفع بها الأدلة التي ذكرناها آنفا ; لكونها مفيدة حكم القاعدة الكلية . ويمكن أن يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ربط ثمامة في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين ، واجتماعهم عليها ، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد ، فيأنس بذلك ويسلم ، وكذلك كان. ويمكن أن يقال : إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد. والله تعالى أعلم .

وقوله : ( إن تقتل تقتل ذا دم ) ; هو بالدال المهملة ; ويعني به : إنه ممن يشتفى [ ص: 585 ] بدمه ; لأنه كبير في قومه ، وقد سمعت من بعض النقلة أنه يقوله بالذال المعجمة ، وفسره بالعيب ، وليس بشيء في المعنى ، ولا صحيح في الرواية ، وهو تصحيف . ولو أراد به العيب لقال : ذام ، بألف ، كما في المثل : لا تعدم الحسناء ذاما ; أي : عيبا .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أطلقوا ثمامة ) ; دليل على جواز المن على الأسارى ، كما قدمناه .

وقوله : ( فانطلق إلى نخل قريب من المسجد ، فاغتسل ، ثم دخل المسجد ) ; هذا يدل : على أن غسل الكافر كان عندهم مشروعا ، معمولا به ، معروفا . ألا ترى أنه لم يحتج في ذلك إلى من يأمره بالغسل ، ولا لمن ينبهه عليه ؟!

وقد ورد الأمر به من النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر : أن قيس بن عاصم أسلم ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل . وبه تمسك من قال : بوجوب الغسل على الكافر إذا أسلم . وهو قول أحمد ، وأبي ثور . وأما مالك فقال في المشهور عنه : إنه إنما يغتسل لكونه جنبا . ومن أصحابه من قال : يغتسل للنظافة . وقال بسقوط الوجوب الشافعي . وقال : أحب إلي أن يغتسل . ونحوه لابن القاسم . ولمالك أيضا قول : إنه لا يعرف [ ص: 586 ] الغسل. رواه عنه ابن وهب ، وابن أبي أويس . والرواية الصحيحة في البخاري ومسلم : نخل - بالخاء المعجمة - ، وقال بعضهم : صوابه : بالجيم ، وهو الماء المنثعب ، وقيل : الجاري . وقال ابن دريد : النجل : هو أول ما ينبعث من البئر إذا جرت . واستنجل الوادي ; إذا ظهر ماؤه .

وقوله : ( إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فبشره ، وأمره أن يعتمر ) ; لا يفهم منه : أنه لما أراد أن يعتمر وهو في الجاهلية أن ذلك لزمه ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإتمامه ; لأنه لم يصر أحد من المسلمين إلى أن إرادة فعل القربة يلزمها من غير التزام بالنذر ، ولا شروع في العمل ، بل ولو التزم ، وشرع لم يلزمه ذلك في حالة كفره ; لأنا وإن قلنا : إنه مخاطب بالفروع ، فلا يتأتى منه قصد الالتزام ، ولا يصح منه الشروع! إذ لم يفعل ذلك على وجه شرعي ، بل هو فاسد لعدم شروطه ، لا سيما إذا كان ممن يحتاج إلى نية القربة ، وإنما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينشئ عمرة مبتدأة ، ليحرز فيها له الأجر ، وليغيظ بإسلامه كفار قريش ، فإن الرجل كان عظيما في قومه وغيرهم ، ولذلك لما قدم مكة أظهر إسلامه ، ولم يبال بهم ، بل أخبرهم بما ناقضهم به ، وأغاظهم ; وهو قوله : ( والله! لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى [ ص: 587 ] يأذن فيها رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ) . وأيضا : فما كانت العمرة والحج في ذلك الوقت مشروعين ، بل شرعا بعد ذلك. والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية