المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3322 (18) باب

كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام

[ 1289 ] عن ابن عباس: أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه. قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، قال: فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ، ( يعني : عظيم الروم)، قال: وكان دحية الكلبي جاء به ، فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل ، فقال هرقل: هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم ، فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل . فأجلسنا بين يديه. فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا ، فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي ، ثم دعا بترجمانه فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذبني فكذبوه. قال: فقال أبو سفيان: وايم الله ، لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت ! ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب، قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا ، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا ، قال: ومن تبعه ؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم ، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: لا بل يزيدون ، قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا ، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم ، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا ، يصيب منا ونصيب منه ، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها ، قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه ، قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال: قلت: لا ، قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه ، فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ، وسألت: هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا ، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه ، وسألتك عن أتباعه ، أضعفاؤهم أم أشرافهم ، فقلت: بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثم يذهب فيكذب على الله ، وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب ، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ، فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قد قاتلتموه ، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ، ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة ، وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا ، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله ، قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله. ثم قال: بم يأمركم؟ قال : قلت: يأمرنا بالصلاة ، والزكاة ، والصلة ، والعفاف. قال: إن يكن ما تقول فيه حقا ، فإنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظنه منكم ، ولو أني أعلم أني أخلص إليه ، لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. قال: ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله إلى قوله : فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [آل عمران : 64] فلما فرغ من قراءة الكتاب ، ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط ، وأمر بنا فأخرجنا ، فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليخافه ملك بني الأصفر! ......... قال: فما زلت موقنا بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سيظهر ، حتى أدخل الله علي الإسلام .

وفي رواية : وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس ، مشى من حمص إلى إيلياء ، شكرا لما أبلاه الله. وقال فيها : من محمد عبد الله ورسوله. وقال: "إثم اليريسيين". وقال: "بداعية الإسلام" .

رواه أحمد ( 1 \ 263 ) والبخاري (4553)، ومسلم (1773)، والترمذي (2717).


(18) ومن باب: كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل

قول أبي سفيان : ( في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ; يعني به : صلح النبي -صلى الله عليه وسلم- مع قريش بالحديبية ، وكانوا تعاقدوا على صلح عشر سنين ، فاستمر ذلك إلى أن نقضت قريش العقد ، فكان ذلك سبب فتح مكة .

و ( دحية ) : يقال بفتح الدال وكسرها . قال ابن السكيت : هو بالكسر لا غير . وقال أبو حاتم : هو بالفتح لا غير . وقال المطرز : الدحى : الرؤساء ، واحدهم : دحية .

قلت : وعلى هذا فالكسر هو الصواب ، كما قال ابن السكيت ; لأن : دحية ، ودحى ، كلحية ، ولحى ، وفدية ، وفدى ، وهو القياس ; لأن نظيره من الصحيح : قربة وقرب ، لكن لا يبعد أن يقال : إنه لما نقل إلى العلمية غير بالفتح ، كما قد فعلت العرب في كثير [ ص: 602 ] من الأعلام .

و ( بصرى ) - بضم الباء- : وهي من مدن الشام ، وهي مدينة حوران . و (الترجمان) : هو المعبر عن القوم . يقال : بضم التاء وفتحها. و ( هرقل ) - بكسر الهاء ، وفتح الراء ، وسكون القاف- : وهو اسم لكل ملك للروم ، كالنجاشي : اسم لكل ملك للحبشة . وكسرى : اسم لكل ملك للفرس . وقد قدمنا هذا في كتاب : الجنائز .

قلت : إذا تأملت هذا الحديث علمت فطنة هذا الرجل ، وجودة قريحته ، وحسن نظره ، وسياسته ، وتثبته . وأنه علم صحة نبوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وصدقه . غير أنه ظهر منه بعد هذا ما يدل : على أنه لم يؤمن ، ولم ينتفع بذلك العلم الذي حصل له ، فإنه هو الذي جيش الجيوش على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وقاتلهم ، وألب عليهم ، ولم يقصر في تجهيز الجيوش عليهم ، وإرساله إليهم الجموع العظيمة من الروم وغيرهم الكرة بعد الكرة ، فيهزمهم الله ، ويهلكهم ، ولا يرجع إليهم منهم إلا فلهم ، واستمر على ذلك إلى أن مات ، وقد فتح الله على المسلمين أكثر بلاد الشام ، ثم ولي ولده بعده ، وعليه فتحت جميع البلاد الشامية ، وبهلاكه هلكت المملكة الرومية .

[ ص: 603 ] وقوله : ( فإن كذبني فكذبوه ) ; كذبني- بفتح الذال ، وتخفيفها ، وبالنون- : يعني : أنه إن كذب لي فأظهروا كذبه ، وهو مما يعدى بحرف الجر وبغيره ، يقال : كذبته ، وكذبت له . و (كذبوه) - مشدد الذال- ; أي : عرفوني بكذبه ، وأظهروا كذبه ، ولذلك أجلس أصحابه خلفه . وإنما سأل عن أقربهم نسبا منه ; لأنه أعلم بدخلة أمر صاحبه في غالب الحال . وهذه كلها التفاتات من هرقل تدل على قوة عقله .

وقول أبي سفيان : ( وايم الله ) هي كلمة محذوفة من (ايمن الله) تستعملها العرب اسما مرفوعا في القسم على الابتداء ، والخبر محذوف . وقد اختلف النحويون فيها . هل هي : اسم مفرد همزته همزة وصل ، وإنما فتحت همزته لأنه غير منصرف ، فخالف جميع همزات الوصل ، وهو مذهب سيبويه؟ أو هل هي : جمع يمين ، وهمزته همزة قطع ; لأنها همزة جمع . وهو قول الفراء ، وهي عنده جمع يمين؟ وقول سيبويه أشبه ، بدليل : أنهم كسروا همزتها ، وأنهم تصرفوا فيها بلغات مختلفة ، منها : ايمن بالكسر ، وبالفتح : ايمن . وبحذف النون والهمزة وضم الميم من (م الله) وكسرها . وقد أبدل بعضهم من الهمزة (هاء) ، فقال : هيمن الله . وهذا النحو من التصرف لم تفعله العرب في صيغ الجموع .

وقوله : ( لولا أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه ) ; يعني : لولا أن يتحدث وينقل عنه الكذب . وإنما وقع له هذا في ذلك الوقت لشدة عداوته للنبي -صلى الله عليه وسلم- [ ص: 604 ] وحسده ، وحرصه على إطفاء نوره ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره . وفيه ما يدل: على أن الكذب مذموم في الجاهلية ، والإسلام ، وأنه ليس من خلق الكرام .

و (الحسب) : الشرف . والحسيب من الرجال : هو الذي يحسب لنفسه آباء أشرافا ومآثر جميلة . وهو من الحساب ، وهو العدد .

و (السجال) مصدر : ساجله ، يساجله ، سجالا : إذا ناوبه ، وقاومه . وأصله من السجل : وهو : الدلو العظيمة التي لا يستقل واحد برفعها من البئر . وقد فسر معناه بقوله : يصيب منا ، ونصيب منه .

وقوله : ( والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة ) ; يعني : أنه كان يعلم من خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوفاء ، والصدق ، وأنه يفي بما عاهدهم عليه ، لكن لما كان المستقبل غير حاصل في وقته ذلك لبس بتطريق الاحتمال ، تمويها بما يعلم خلافه .

وقول هرقل في الضعفاء : ( هم أتباع الرسل ) ، إنما كان ذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف ، وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد للغير ، والضعيف خلي عن تلك الموانع ، وهذا غالب أحوال أهل الدنيا ، وإلا فقد ظهر أن السباق [ ص: 605 ] للإسلام كانوا أشرافا في الجاهلية والإسلام ، كأبي بكر ، وعمر ، وحمزة ، وغيرهم من الكبراء والأشراف.

وقوله : ( وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ) ; إنما كان ذلك لما خص الله به الأشراف من مكارم الأخلاق ، والتباعد عن سفسافها . والصدق والأمانة ، ولتنجذب النفوس إليهم ، فإن الأبصار مع الصور ، وأقل ما في الوجود إدراك البصائر .

وقوله : ( وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب ) ; هكذا وقعت هذه الرواية هنا ، وفي البخاري : (حين تخالط بشاشته القلوب) ، وهي أوضح . وأصل البشاشة : التلطف والتأنس عند اللقاء . يقال : بش به ، وبشبش. ومعنى هذا : أن القلوب المنشرحة إذا سمعت الإيمان ، وأصغت إليه بشت له ، ورحبت بلقائه ، كما يفعل بالغائب عن اللقاء ، ثم إذا حل الإيمان في القلب انكشفت له محاسنه ، وتوالت عليه أنواره ، حتى يكره أن يعود في الكفر ، كما يكره أن يقذف في النار .

[ ص: 606 ] وقوله : ( وكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لهم العاقبة ) ; ابتلاء الرسل بنحو ما ذكر إنما هو ترفيع لدرجاتهم ، وستر لأحوالهم ، حتى لا يصير العلم بهم ضروريا . والله تعالى أعلم .

و ( العاقبة ) : العقبى : الخاتمة الحسنة .

وقوله : ( هل قال هذا القول أحد قبله ؟) يعني : من عرب قومه ، وإلا فالرسل كثير ، وقد كان في العرب غير قومه رسل ، كهود ، وصالح ، كما ذكر في حديث أبي ذر ، ولذلك قال تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [يس: 6] ; أي : لم يبعث في آبائهم المشهورين عندهم رسول ينذرهم . وهو قول المحققين من المفسرين . وقد دل عليه قوله تعالى في آية أخرى : لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك

و ( الصلة ) : يعني بها : صلة الأرحام . و ( العفاف ) يعني به : عن الفواحش .

وقوله : ( إن يكن ما تقول حقا فإنه نبي ) ; هذا الكلام محذوف المقدمة الاستثنائية لدلالة الكلام عليها ، وتقديرها : لكن ما تقول حق فهو نبي . ويدل [ ص: 607 ] على أن هذا مراده قطعا الذي بعده فإنه قطع فيه بنبوته ، فتأمله .

وقوله : ( وقد كنت أعلم أنه خارج ) ; أي : بما في الكتب التي اطلع عليها ، والبشائر به ، والإخبار بمجيئه ، ووقته ، وعلاماته .

وقوله : ( ولم أكن أظن أنه منكم ) ; كأنه استبعد أن يكون نبي من العرب ، لما كانوا عليه من الأعمال الجاهلية ، والطبيعة الأمية ، والحالة الضعيفة الزرية ، وتمسكا بكثرة الرسل في الملة الإسرائيلية ، وقد كان كل ذلك ، لكن جبر الله صدع هذه الأمة ; بأن اختصهم بهذا الرسول العظيم ; الذي شرفهم به ، وكرمهم حتى صيرهم خير أمة ، والحمد لله على هذه النعمة .

وقوله : ( ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ) ; هكذا جاءت هذه الرواية عند جميع رواة مسلم ، وفيها بعد . وأوضح منها ما جاء في البخاري : (لتجشمت لقاءه) ; أي : لتكلفت ذلك على مشقة.

وقوله : ( ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ) ; أي : إكراما ، واحتراما ، وخدمة .

وقوله : ( وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ) ; يعني بذلك أرضه التي كان فيها ، ومملكته التي كان عليها . وكذلك كان . وهذا منه تحقيق لنبوته -صلى الله عليه وسلم- ، وعلم بما يفتح الله عليه ، وبما ينتهي إليه أمره . ومع ذلك ففي البخاري : أنه استمر على كفره ، فنعوذ بالله من علم لا ينفع .

[ ص: 608 ] وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب الذي كتبه إليه : ( إلى هرقل عظيم الروم ) ; أي الذي تعظمه الروم ، وهو مفاتحته بخطاب استلطاف ، ويقتضي التأنيس ، والاستئلاف ، مع أنه حق في نفسه ، فإنه كان معظما في الروم ، وكان أعظم ملوكهم .

وقوله : ( سلام على من اتبع الهدى ) ; عدول عن السلام عليه ; لأن الكافر لا يفاتح بالسلام إلى التعريض له باتباع طريق الهداية ، وقد رأى بعض أهل العلم : أن السلام على أهل الكفر والبدع هكذا يكون.

و ( دعاية الإسلام ) بكسر الدال ، وهي في أصلها : مصدر : دعا ، يدعو ، دعوة . ودعاية ، كرمى ، يرمي ، رمية ، ورماية ، وشكا ، يشكو ، شكوة ، وشكاية . ويعني بها هنا : كلمتي الإسلام ، وهي : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . وأما رواية : (داعية) فهي صفة للكلمة المحذوفة ، فكأنه قال : بالكلمة الداعية للإسلام .

وقوله : ( أسلم تسلم ) ; يعني : ادخل في دين الإسلام تسلم في الدنيا من الخزي وفي الآخرة من العذاب ، وهو من التجنيس البديع .

وقوله : ( يؤتك الله أجرك مرتين ) ; يعني : باتباعه لدين عيسى - عليه السلام- ، وباتباعه لدين محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وهذا كقوله -عليه الصلاة والسلام - : (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، ثم أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه ، فله أجران) .

قلت : وهذا إنما يتحصل للكتابي إذا كان متبعا لدين نبيه في الاعتقاد الصحيح ، والعمل على مقتضى شريعته . أما لو اعتقد في عيسى ، أو في الله تعالى ما لم تجئ به شريعته ، فلا يحصل له أجران إذا أسلم ، بل أجر الإسلام خاصة ; [ ص: 609 ] لأنه لم يكن على شريعة عيسى ، ولا على غيرها ، فلم يتبعه ، فلا يحصل له أجر .

وقوله : ( فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ) ; يروى : الأريسيين بالهمزة ، وبالياء مكان الهمزة ، فأما بالهمزة : فقيل : هم الملوك ، وقيل : الأكارون ، وهم الفلاحون . قال ابن الأعرابي : أرس ، يأرس ، أرسا : إذا صار ريسا . فيكون معناه : إن أعرض عن الدخول في الإسلام كان عليه إثم من اتبعه من رؤساء مملكته ورعاياه . قال أبو عبيد : ليس الفلاحون الزراعون فقط ، لكن أراد بهم جميع أهل مملكته ; لأن كل من يزرع عند العرب فلاح . وأما من رواه بالياء ، فقد قيل فيه ما تقدم ، فتكون لغتين . وقال بعضهم : يكون من التبختر . يقال : راس ، يريس ، ريسا ، وريسانا : إذا تبختر . وراس يروس ، روسا ، أيضا.

قلت : وعلى هذا فيكون المراد به : أن عليه إثم من تكبر على الحق ، ولم يدخل فيه من أهل مملكته .

( أهل الكتاب ) : اليهود ، والنصارى ، نسبوا إلى الكتابين المنزلين على موسى وعيسى عليهما السلام . ( تعالوا ) بمعنى : أجيبوا إلى ما دعيتم إليه . وهو الكلمة العادلة المستقيمة ، التي ليس فيها ميل عن الحق ، وقد فسرها بقوله : ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله [آل عمران: 64] ( أرباب ) جمع : رب . وقد تقدم تفسيره. و ( دون ) : هنا بمعنى : غير . فإن تولوا أعرضوا عما دعوا إليه . فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ; أي : متصفون بدين الإسلام ، منقادون لأحكامه ، معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن ، والإنعام.

[ ص: 610 ] وفيه دليل : على جواز مس الجنب ، والكافر كتب التفسير والفقه ، وإن كان فيها قرآن ، لأن القرآن فيها تابع لغيره ، فجاء ضمنا بخلاف ما إذا كان القرآن وحده ; فلا يجوز للجنب ولا للكافر أن يمسا منه شيئا ، قليلا كان أو كثيرا ، ومن هنا قال مالك - رحمه الله - : إن المصحف إذا كان في عدل أو خرج ليس مخصوصا بالمصحف جاز للجنب ، والنصراني أن يحملاه في خرجه ، أو عدله ، وأما جواز قراءة الجنب الآيات اليسيرة للتعوذ ، فلا يستمرأ من هذا الحديث ، فتأمله ، واللغط : اختلاف الأصوات ، واختلاطها ، وهو السخب أيضا ، كما وقع في البخاري .

وقول أبي سفيان : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ،إنه ليخافه ملك بني الأصفر أمر أي : علا وعظم ، وهو من : أمر القوم : إذا كثروا ، ومنه قوله تعالى : أمرنا مترفيها [الإسراء: 16] فيمن قرأه بالتخفيف على أحد الوجوه ، ونسبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن أبي كبشة ، قال فيه أبو الحسن الجرجاني النسابة : نسبتهم إياه لابن أبي كبشة عداوة له إذ لم يمكنهم الطعن في نسبه الشهير ، وكان وهب بن عبد مناف بن زهرة جده أبو أمه يكنى أبا كبشة ، وكذلك عمرو بن زيد بن أسد النجاري أبو سلمى أم عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة ، وكذلك أيضا في أجداده من قبل أمه أبو كبشة جز بن غالب بن الحارث ، وهو أبو قيلة أم وهب بن عبد مناف أبي آمنة أمه - صلى الله عليه وسلم - وهو خزاعي ، وهو الذي كان يعبد الشعرى وكان أبوه من الرضاعة يدعى [ ص: 611 ] أبا كبشة وهو الحارث بن عبد العزى السعدي ، وقال مثل هذا كله محمد بن حبيب البغدادي ، وزاد أبو نصر بن ماكولا ، وقال : أبو كبشة : عمرو والد حليمة مرضعته ، وقيل : إنما نسبوه لأبي كبشة لأنه خرج من دين العرب ، كما فعل أبو كبشة الذي عبد الشعرى العبور ، وإنما عبدها ، لأنه رآها تقطع السماء عرضا بخلاف سائر النجوم .

وفي تسمية الروم بـ ( بني الأصفر ) قولان) .

أحدهما : ما قاله ابن الأنباري : أن جيشا من الحبشة غلبوا على ناحيتهم في بعض الدهر فوطئوا نساءهم ، فولدن أولادا صفرا .

والثاني : قاله أبو إسحاق الحربي ، وهو أنهم نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم . وهذا أشبه من القول الأول .

وقوله : ( شكرا لما أبلاه ) ; أي : أنعم عليه. وأصل الابتلاء : الاختبار . وفيه لغتان : ثلاثيا ، ورباعيا . يقال : بلا ، وأبلى . وقد جمع بينهما زهير فقال :


................ وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

وقيل : (أبلى) في الخير ، و (بلا) في الشر . والأول أشهر.

التالي السابق


الخدمات العلمية