المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3325 [ 1292 ] وعن أبي إسحاق قال: قال رجل للبراء: يا أبا عمارة ، فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ، ما ولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس عليهم سلاح ، أو كبير سلاح ، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم ، جمع هوازن وبني نصر ، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون ، فأقبلوا هناك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به ، فنزل فاستنصر فقال:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب -زاد في رواية: اللهم نزل نصرك- قال : ثم صفهم . قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به ، وإن الشجاع منا الذي يحاذي به ، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم- .

وفي رواية : ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفر ، وكانت هوازن يومئذ رماة ، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا ، فانكببنا على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام .


رواه أحمد ( 4 \ 281 ) والبخاري (2874)، ومسلم (1776) (78 و 79 و 80)، والترمذي (1688).


و ( الحسر ) : جمع حاسر ، وهو الذي لا درع معه ، ولا شيء يتقي به النبل .

[ ص: 618 ] و ( الأخفاء ) : المسرعون ، المستعجلون . وقد رواه الحربي ، والمغربي : (جفاء من الناس) بجيم مضمومة مخففة والمد ، وفسره المهدوي بالسراع ، شبههم بجفاء السيل ، وهو غثاؤه . وقال غيره : إنما أراد به أخلاط الناس ، وضعفاءهم ممن لم يقصد القتال ، بل الغنيمة ، وفي قلبه مرض ، شبههم بغثاء السيل ، وهو ما احتمله السيل .

و ( استنصر ) ; أي : سأل النصر ، ودعا به .

وقوله : ( أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ) ; أي : أنا النبي المعروف عند علماء الكتاب ، المنعوت في كتبهم حقا بلا كذب . وانتسابه لعبد المطلب ; لأنه بذلك كان شهر عندهم ; لأن أباه عبد الله مات وتركه حملا ، فولد ، ونشأ في حجر جده عبد المطلب ، ثم إن عبد المطلب أحبه حبا شديدا ، بحيث كان يفضله على أولاده ، لما كان ظهر له من بركاته ، وكراماته ، فكان يلازمه لذلك ، فعرف به ، ولذلك ناداه ضمام بن ثعلبة : يا ابن عبد المطلب ! فانتمى هو عند الحرب على عادة الشجعان في انتسابهم لمن كان يعرف به. وقيل : إنما كان ذلك منه [ ص: 619 ] تنبيها على ما قال سيف بن ذي يزن لعبد المطلب حين قدم عليه في وفد قريش ، حيث بشره بأنه يكون من ولده نبي يقتل أعداءه. ولم يكن ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- على جهة الافتخار بآبائه ، فإن ذلك من خلق الجاهلية التي قد نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وحرمها ، وذم من انتمى إليها .

لا يقال ; فكيف يصح أن ينسب هذا الشعر للنبي -صلى الله عليه وسلم- مع قوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له [يس : 69] ; لأنا نجيب عن ذلك بأوجه :

أحدها : أن هذا قصد به السجع لا الشعر ، فليس بشعر . قيل قد قال الأخفش : إن هذا رجز ، والرجز ليس من الشعر .

والثاني : أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقصد نظما ووزنا فيكون شعرا ، فقد يأتي في الكلام والقرآن ما يتزن بوزن الشعر وليس بشعر ، كقوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران: 92] وقوله : نصر من الله وفتح قريب [الصف: 13] وكثيرا ما يقع للعوام في كلامهم المقــفى الموزون ، وليس بشعر ، ولا يسمى قائله شاعرا ; لأنه لم يقصده ، ولا شعر به . والشعر إنما سمي بذلك ; لأن قائله يشعر به ويقصده نظما ، ووزنا ، ورويا ، وقافية ، ومعنى .

والثالث : على تسليم أن هذا شعر فلا يلزم منه أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- عالما بالشعر ، ولا شاعرا ; فإن التمثل بالبيت الندر ، وإصابة القافيتين من الرجز وغيره ; لا يوجب أن يكون قائلها عالما بالشعر ، ولا يسمى شاعرا باتفاق العقلاء . وأما الذي نفى الله عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- فهو العلم بالشعر ، وأصنافه ، وأعاريضه ، وقوافيه ، [ ص: 620 ] والاتصاف بقوله ، ولم يكن موصوفا بشيء من ذلك بالاتفاق ، ألا ترى أن قريشا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم ، فقال بعضهم : نقول : إنه شاعر. فقال أهل الفطنة منهم : والله لتكذبنكم العرب ، فإنهم يعرفون أصناف الشعر ، فوالله ما يشبه شيئا منها ، وما قوله بشعر . وقال أنيس أخو أبي ذر : لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم أنه شعر . وكان

أنيس من أشعر العرب . وهذا الوجه هو المعتمد في الانفصال . والله تعالى أعلم .

وفائدة قوله -صلى الله عليه وسلم- : ( أنا النبي لا كذب ) إلى آخره ; جواز الانتماء عند الحرب ، كما قال سلمة بن الأكوع : خذها وأنا ابن الأكوع . وقد روي ذلك عن جماعة من السلف . وقال ابن عبد الحكم من أصحابنا : إنما يكره أن يكون ذلك على وجه الكبر ، والافتخار ، كما كانت الجاهلية تفعل .

وقوله- أعني البراء - : ( كنا إذا احمر البأس نتقي به ) ; هذا كناية عن شدة الحرب ، إما لحمرة دم الجرحى والقتلى . وإما لتشبيه ذلك بحمرة جمرة النار . و (البأس) هنا : الحرب .

وقوله : ( ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفر ) ; هذا هو المعلوم من حاله ، وحال الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم ; من إقدامهم ، وشجاعتهم ، وثقتهم بوعد [ ص: 621 ] الله تعالى ، ورغبتهم في الشهادة ، وفي لقاء الله تعالى . ولم يثبت قط عن واحد منهم : أنه فر ، أو انهزم ، ومن قال ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقال : فر أو انهزم ; قتل ، ولم يستتب ; لأنه صار بمنزلة من قال : إنه -صلى الله عليه وسلم- كان أسود ، أو أعجميا ، فأنكر ما علم من وصفه قطعا ، وكذب به ، وذلك كفر ، ولأنه قد أضاف إليه نقصا وعيبا . وقد حكى أصحابنا الإجماع على قتل من أضاف إليه نقصا أو عيبا . وقيل : يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية