المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3332 (22) باب

ما جاء أن فتح مكة عنوة وقوله عليه الصلاة والسلام : "لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم"

[ 1297 ] عن عبد الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان وفينا أبو هريرة، فكان كل رجل منا يصنع طعاما يوما لأصحابه، فكانت نوبتي فقلت: يا أبا هريرة، اليوم نوبتي، فجاءوا إلى المنزل ولم يدرك طعامنا فقلت: يا أبا هريرة، لو حدثتنا عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حتى يدرك طعامنا. فقال: كنا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي، فقال: "يا أبا هريرة، ادع لي الأنصار". فدعوتهم فجاءوا يهرولون، فقال: "يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟". قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتموهم غدا، أن تحصدوهم حصدا. وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله، وقال: "موعدكم الصفا". قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، قال: وصعد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على الصفا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم. قال أبو سفيان: فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن"، فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته. ونزل الوحي على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وقال: "قلتم: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته، ألا فما اسمي إذا (ثلاث مرات)- أنا محمد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم". قالوا: والله ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله. قال: "فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم".

وفي رواية: قال: فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان، وأغلق الناس أبوابهم، قال: فأقبل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حتى أقبل إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت، قال: فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، قال: وفي يد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قوس. وهو آخذ بسية القوس، فلما أتى على الصنم جعل يطعن في عينه ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل" فلما فرغ من طوافه أتى الصفا ، فعلا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو.

رواه أحمد ( 2 \ 538 )، ومسلم (1780) (84 و 86)، وأبو داود (1572) و (3023).


[ ص: 628 ] (22) ومن باب: ما جاء أن فتح مكة عنوة

قوله : ( كان كل رجل منا يصنع طعاما يوما لأصحابه ، فكانت نوبتي ) ; هذه المناوبة في الطعام كانت منهم على جهة المكارمة ، والمطايبة ، والتبرك بالمؤاكلة والمشاركة فيها ، لا على جهة المعاوضة ، والمشاحة ; ولذلك قال أبو هريرة للذي دعاه : (سبقتني) . ففيه ما كان السلف عليه من حسن التودد ، والمزاولة ، والمواصلة ، والمكارمة . و (لو) هي هنا للتمني ; أي : ليتك حدثتنا . و ( أدرك طعامنا ) ; أي : انتهى إلى النضج .

[ ص: 629 ] وقوله : ( وجعل أبا عبيدة على البياذقة ) ; البياذقة : هم الرجالة . وأصله بالفارسية : أصحاب ركاب الملك . وقد رواه بعضهم : (الساقة) وفيها بعد . وبعضهم قال : (الشارفة) ; أي : المشرفة . وهي تصحيف . والأولى هي الصواب . وفي رواية أخرى : (الحسر) مكان ( البياذقة ) وهو جمع حاسر . وهو هنا : الذي لا درع معه . وهذا الوصف صادق على الرجالة ; فإنهم كذلك غالبا .

وقوله : ( وبطن الوادي ) منصوب بفعل مضمر ; أي : وجعل طريقه بطن الوادي ، كما جاء مفسرا في الرواية ، ولا يجوز خفضه ; لأنه يلزم منه أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل أبا عبيدة على سكان بطن الوادي . وذلك غير مراد قطعا .

ونداؤه -صلى الله عليه وسلم- للأنصار خاصة : إما لأن المهاجرين كانوا حضورا معه ، فلم يحتج إلى ندائهم ، وإما ليظهر لهم شدة اعتنائه بهم ، وتعويله عليهم . ويظهر لي : أن اختصاصه بالأنصار في هذا الموضع ، وقوله : (لا يأتيني إلا أنصاري) ; كما جاء في الرواية الأخرى ، إنما كان لأنه وصاهم بقتل من تعرض لهم من قريش ; إذ لا قرابة ، ولا رحم بينهم ، فلا موجب للعطف عليهم ، بخلاف المهاجرين ; فإن بينهم قرابات وأرحاما ، فلا جرم لما سمعت الأنصار أمره مضوا لذلك ، فلم يتعرض لهم أحد إلا أناموه ; أي : قتلوه ، فصيروه كالنائم . والله تعالى أعلم .

و ( أوباش قريش ) : أخلاطهم . وفي الرواية الأخرى : ووبشت قريش أوباشا لها ; أي : جمعت جموعا من قبائل مختلفة . ويقال : أوباش وأوشاب . بمعنى [ ص: 630 ] واحد .

و ( الحصد ) : القطع . وأصله في الزرع ، واستعاره هنا للقتل لما كانت الرءوس والأيدي تقطع فيه .

وقوله : ( وأحفى بيده ووضع يمينه على شماله ) ; كذا صحيح الرواية- بالحاء المهملة- معناه : استأصل ; أي : أشار إلى ذلك . وبعضهم رواه : (وأكفى) - بالكاف- ; أي : مال بيده ، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - وضع يمناه على يسراه ، وأمرها عليها مشيرا إلى الاستئصال . والله تعالى أعلم .

وقوله : ( موعدكم الصفا ) ; ظاهره خطابه للأنصار ، فكأنه -صلى الله عليه وسلم- سلك الطريق الأعلى من مكة ، وسلكت الأنصار من أسفلها ، حتى اجتمعوا عند الصفا . و (الموعد) هنا : موضع الوعد ، وقد يأتي كذلك في الزمان ، كقوله تعالى : إن موعدهم الصبح [هود: 81] ويأتي كذلك للمصدر . وهو في كل ذلك مكسور العين .

وقول أبي سفيان : ( أبيدت خضراء قريش ) ; أي : أفنيت وأذهبت . وفي رواية أخرى : (أبيحت) من الإباحة . وكلاهما متقارب . و ( خضراء قريش ) معظمها ، وجموعها .

وقوله : ( لا قريش بعد اليوم) ; أي : لا وجود لقريش بعد هذا . وذلك لما رأى من هول الأمر ، والغلبة ، والقهر ، والاستطالة ، والاستيلاء عليهم .

وهذا الحديث لمالك نص: على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلها عنوة ، وقهرا . وهو [ ص: 631 ] الذي صار إليه جمهور العلماء ، والفقهاء ، مالك وغيره ، ما عدا الشافعي ، فإنه قال : فتحت صلحا . وقد اعتذر بعض أصحابه عنه في ذلك بأن قال : أراد الشافعي بقوله : إنه - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة صلحا ; أي : فعل فيها ما يفعل من صالح . فملكهم أنفسهم ، ومالهم ، وأرضيهم .

قلت : والكل متفقون على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة أمن أهلها ولم يغنمهم ، وترك لهم أموالهم ، وذراريهم ، وأراضيهم ، ولم يجر عليها حكم الغنيمة ، ولا حكم الفيء ، فكان ذلك أمرا خاصا بمكة ، لشرفها ، وحرمتها ، ولا يساويها في ذلك غيرها من البلاد بوجه من الوجوه . والله تعالى أعلم . وقد تقدم الكلام في بيع دور مكة وإجاراتها.

وقول الأنصار : ( أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ، ورغبة في قريته ) ; هذا القول ليس فيه تنقيص ، ولا تصغير ، وإنما هم لما رأوا منه ما يقتضيه خلق الكرام ، وجبلات الفضلاء من الرأفة على العشيرة ، والصغو للوطن ، والحنين له ، خافوا أن يؤثر المقام فيها على المقام بالمدينة ، فحملهم شدة محبتهم له ، وكراهة [ ص: 632 ] مفارقته ، أو مفارقة أوطانهم ، على أن قالوا هذا الكلام ، وقد بينوا عذرهم عن هذا حيث قالوا : ( ما قلناه إلا ضنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم - ; أي : بخلا .

وإخباره -صلى الله عليه وسلم- إياهم بما قالوا ، معجزة من معجزاته .

وقوله -صلى الله عليه وسلم- : ( ألا فما اسمي إذا ؟ ) قيل : إنما قال ذلك تنبيها على صدقه لما ظهرت معجزته بإخباره عما غاب عنه ، كما كان يقول عند ظهور الخوارق على يديه : (أشهد أني رسول الله) . وقيل : إنما قال ذلك تنبيها على أن صدق اسمه ( محمد ) عليه يمنعه من نقض العهد ، وترك القيام بحق من له حق ، فكأنه قال : لو فعلت ذلك لما استحققت أن أسمى : محمدا ، ولا : أحمد ; وكلاهما مأخوذ من الحمد . ويدل على صحة هذا التأويل قوله : ( المحيا محياكم ، والممات مماتكم ) ; أي لا أفارقكم حياتي ولا موتي . وبكاء الأنصار إنما كان فرحا وصبابة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

[ ص: 633 ] و ( سية القوس ) : طرفها المنحني . وله سيتان . وقد قال في طريق أخرى : ( بعود في يديه ) ، يريد به القوس .

التالي السابق


الخدمات العلمية