المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3359 (28) باب

جواز إعمال الحيلة في قتل الكفار

وذكر قتل كعب بن الأشرف

[ 1317 ] عن جابر قال : قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله". فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم". قال: ائذن لي فلأقل. قال: "قل". فأتاه ، فقال له، وذكر ما بينهما، وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة ، وقد عنانا، فلما سمعه قال: وأيضا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا، قال: فما ترهنني؟ ترهنني نساءكم، قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟ قال : ترهنوني أولادكم، قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر، ولكن نرهنك اللأمة. (يعني السلاح) قال: نعم. وواعده أن يأتيه بالحارث، وأبي عبس بن جبر، وعباد بن بشر، قال: فجاؤوا فدعوه ليلا، فنزل إليهم .

وفي رواية : قالت امرأته: إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم، قال: إنما هذا محمد ، ورضيعه، وأبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل ، نزل وهو متوشح، فقال: نجد منك ريح الطيب، فقال: نعم، تحتي فلانة، هي أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه، قال: نعم، فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ فاستمكن من رأسه، ثم قال: دونكم! قال: فقتلوه .


رواه البخاري (2510)، ومسلم (1801)، وأبو داود (2768).


(28) ومن باب: إعمال الحيلة في قتل الكفار

قوله : ( من لكعب بن الأشرف ) ; كعب هذا : رجل من بني نبهان من طيء ، وأمه من بني النضير ، وكان شاعرا ، وكان قد عاهده النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يعين عليه ، [ ص: 660 ] ولا يتعرض لأذاه ، ولا لأذى المسلمين ، فنقض العهد ، وانطلق إلى مكة إثر وقعة بدر ، فجعل يبكي من قتل من الكفار ، ويحرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، وهو الذي أغرى قريشا وغيرهم حتى اجتمعوا لغزوة أحد ، ثم إنه رجع إلى بلده ، فجعل يهجو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ويؤذيه ، والمسلمين . فحينئذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( من لكعب بن الأشرف ، فإنه قد آذى الله ورسوله ) ، فأغرى بقتله ، ونبه على علة ذلك ، وأنه مستحق للقتل . ولا يظن أحد : أنه قتل غدرا . فمن قال ذلك قتل ، كما فعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وذلك أن رجلا قال ذلك في مجلسه ، فأمر علي بضرب عنقه . وقال آخر : في مجلس معاوية ، فأنكر ذلك محمد بن مسلمة ، وأنكر على معاوية سكوته ، وحلف ألا يظله وإياه سقــف أبدا ، ولا يخلو بقائلها إلا قتله.

قلت : ويظهر لي : أنه يقتل ، ولا يستتاب ; لأن ذلك زندقة إن نسب الغدر للنبي -صلى الله عليه وسلم- . فأما لو نسبه للمباشرين لقتله بحيث يقول : إنهم أمنوه ، ثم غدروه . لكانت هذه النسبة كذبا محضا ; لأنه ليس في كلامهم معه ما يدل على أنهم أمنوه ، ولا صرحوا له بذلك ، ولو فعلوا ذلك لما كان أمانا ; لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما وجههم لقتله لا لتأمينه ، ولا يجار على الله ، ولا على رسوله . ولو كان ذلك لأدى لإسقاط الحدود ، وذلك لا يجوز بالإجماع . وعلى هذا فيكون في قتل من نسب ذلك إليهم نظر ، وتردد . وسببه : هل يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- ; لأنه قد صوب فعلهم ، ورضي به ، فيلزم منه : أنه قد رضي بالغدر؟ ومن صرح بذلك قتل -أو لا يلزم ذلك ; لأنه لم يصرح به ; وإنما هو لازم على قوله - ولعله لو تنبه لذلك الإلزام لم يصرح بنسبة الغدر إليهم ، ويكون هذا من باب التكفير بالمآل ، وقد اختلف فيه . والصحيح : أنه لا يكفر بالمآل ، ولا بما يلزم على المذاهب ، إلا إذا صرح بالقول اللازم . وإذا قلنا : إنه لا يقتل فإنه لا بد من تنكيل ذلك القائل ، وعقوبته بالسجن، والضرب الشديد ، والإهانة العظيمة .

[ ص: 661 ] وقوله : ( إن هذا الرجل قد أراد صدقة ، وقد عنانا ) ; هذا الكلام ليس فيه تصريح بأمان ، بل هو كلام ظهر لكعب منه : أن محمد بن مسلمة ليس محققا ، ولا مخلصا في اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في الكون معه ، ولذلك أجابه بقوله : وأيضا والله لتملنه . وكلام محمد من باب المعاريض ، وليس فيه من الكذب ، ولا من باب الباطل شيء ، بل هو كلام حق ، فإن محمدا -صلى الله عليه وسلم- رجل ، لكن أي رجل ، وقد أراد صدقة من أمته ، وأوجبها عليهم ، وقد عناهم بالتكاليف. أي : أتعبهم ، لكن تعبا حصل لهم به خير الدنيا والآخرة . وإذا تأملت كلام محمد هذا ; علمت أن محمد بن مسلمة من أقدر الناس على البلاغة ، واستعمال المعاريض ، وعلى إعمال الحيلة ، وأنه من أكمل الناس عقلا ورأيا .

وقوله : ( يسب ابن أحدنا ) من السب ، وهو الصواب ، وصحيح الرواية ، وقد قيده الطبري : (يشب) من الشباب ، بالشين المعجمة ، وهو تصحيف ; وإنما عين السلاح للرهن ; لئلا ينكرها إذا جاؤوا بها .

وقول امرأة كعب : ( إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم ) ; أي : صوت طالب [ ص: 662 ] دم . كانت هذه المرأة من شياطين الإنس ، أو تكلم على لسانها شيطان ، كما قال تعالى : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم [الأنعام: 121] وإلا فمن أين أدركت هذا ؟ بل هذا من نوع ما وقع للزباء في قصتها مع قصير حين جاءها بالصناديق فيها الرجال ، فأوهمها أن فيها تجارة ، فلما رأتها أنشدت :


ما للجمال مشيها وئيدا؟

أجندلا يحملن أم حديدا ؟

    أم صرفانا باردا شديدا؟


أم الرجال جثما قعودا ؟

وكذلك كان .

وقوله : ( إنما هو محمد ورضيعه وأبو نائلة ) ; هكذا صحت الرواية فيه على أن أبا نائلة غير رضيع محمد . وقد رواه أهل السير بإسقاط الواو على أنه بدل من (رضيعه) . وفي البخاري : (ورضيعي أبو نائلة ) على أن يكون أبو نائلة رضيع كعب . والمعروف بأنه رضيع محمد . والله تعالى أعلم .

وقوله : ( نزل وهو متوشح ) ; أي : بثوب جعله على أحد منكبيه ، وأخرج الآخر . و ( دونكم ) منصوب على الإغراء ; أي : بادروا إلى قتله ، ولازموه .

التالي السابق


الخدمات العلمية