المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3499 [ 1350 ] وعن عبد الله بن عمرو: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين" .

رواه مسلم (1886) (120).


وقول السائل : ( أرأيت إن قتلت في سبيل الله ; أتكفر عني خطاياي ) ; هذا بحكم عمومه يشمل جميع الخطايا ، ما كان من حقوق الله تعالى ، وما كان من حقوق الآدميين . فجوابه بـ (نعم) مطلقا يقتضي تكفير جميع ذلك ، لكن الاستثناء الوارد بعد هذا يبين أن هذا الخبر ليس على عمومه ; وإنما يتناول حقوق الله تعالى خاصة لقوله -صلى الله عليه وسلم- : ( إلا الدين ) . وذكره الدين تنبيه على ما في معناه من تعلق حقوق الغير بالذمم ، كالغصب ، وأخذ المال بالباطل ، وقتل العمد ، وجراحه ، وغير ذلك من التبعات ، فإن كل هذا أولى بأن لا يغفر بالجهاد من الدين ، لكن هذا كله إذا امتنع من أداء الحقوق مع تمكنه منه ، وأما إذا لم يجد للخروج من ذلك سبيلا ; فالمرجو من كرم الله تعالى إذا صدق في قصده ، وصحت توبته أن يرضي الله تعالى خصومه عنه ، كما قد جاء نصا في حديث أبي سعيد الخدري المشهور في هذا ، وقد دل على صحة ما ذكرناه قوله -صلى الله عليه وسلم- : (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة) ، الحديث ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . ولا يلتفت إلى قول من قال : إن هذا الذي ذكره من الدين إنما كان قبل قوله -صلى الله عليه وسلم- : ( من ترك دينا أو ضياعا فعلي ) ، الحديث ; يشير بذلك إلى أن ذلك المعنى منسوخ . فإنه قول باطل [ ص: 714 ] مفسوخ ; فإن المقصود من هذا الحديث بيان أحكام الديون في الدنيا ، وذلك : أنه كان من أحكامها دوام المطالبة ، وإن كان الإعسار . وقال بعض الرواة : إن الحر كان يباع في الدين. وامتنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة على من مات وعليه دينار ولم يجد وفاء له . فهذه الأحكام وأشباهها هي التي يمكن أن تنسخ ، والحديث الأول لم يتعرض لهذه الأحكام ; وإنما تعرض لمغفرة الذنوب فقط . هذا إذا قلنا : إن هذا ناسخ . فأما إذا حققنا النظر فيه فلا يكون ناسخا ، وإنما غايته : أن تحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- على مقتضى كرم خلقه عن المعسر دينه ، وسد ضيعة الضائع . وقد دل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بعينه : (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ; فعلى هذا يكون هذا التحمل خصوصا به ، أو من جملة تبرعاته لما وسع الله عليه ، وعلى المسلمين . وقد قيل في معنى هذا الحديث : إن معنى ذلك : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام بذلك من مال الخمس والفيء ليبين : أن للغارمين ولأهل الحاجة حقا في بيت مال المسلمين ، وإن الناظر لهم يجب عليه القيام بذلك لهم ، والله تعالى أعلم .

[ ص: 715 ] وفيه من الفقه : جواز تأخير الاستثناء قدرا قليلا ; لأنه أطلق أولا ، فلما ولى دعاه ، فذكر له الاستثناء ، وقد يجاب عنه : بأنه لما أراد أن يستثني أعاد اللفظ الأول ، ووصل الاستثناء به في الحال ، فلا يجوز التأخير ، ويدل على ذلك : أن الاستثناء والتخصيص وغيرهما الصادرة عنه -صلى الله عليه وسلم- كل من عند الله ، لا من عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاجتهاد ، وقد تقدم الاختلاف في هذا الأصل .

التالي السابق


الخدمات العلمية