المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3523 (47) باب

في قوله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

[ 1369 ] عن ثابت قال: قال أنس: عمي سميت به لم يشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرا، قال: فشق عليه. قال: أول مشهد شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غيبت عنه، فإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فليرين الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، قال: فشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين؟ فقال: واها لريح الجنة، أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قتل، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، قال: فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية: رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية [الأحزاب: 23] ........ قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه .

رواه مسلم (1903)، والترمذي (3198) (3199).


[ ص: 738 ] (47) ومن باب: قوله تعالى :

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

قول أنس : ( عمي سميت به ) ; أي : سميت باسمه ، فإن عمه أنس بن النضر .

وقوله : ( إن أشهدني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرين الله ما أصنع ) ; هذا الكلام تضمن أنه ألزم نفسه إلزاما مؤكدا ، وهو : الإبلاء في الجهاد ، والانتهاض فيه ، والإبلاغ في بذل ما يقدر عليه منه ، ولم يصرح بذلك مخافة ما يتوقع من التقصير في ذلك ، وتبرؤا من حوله وقوته ; ولذلك قال : ( فهاب أن يقول غيرها ) ، ومع ذلك فنوى بقلبه ، وصمم على ذلك ، فصح قصده ، ولذلك سماه الله عهدا في الآية حيث قال : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [الأحزاب: 23] فسماه عهدا.

[ ص: 739 ] وقوله : ( واها لريح الجنة ) ; أي : عجبا منه ، فهي هنا تعجب ، وقد تأتي للترحم ، والتلهف ، والاستهانة .

وقوله : ( أجده دون أحد ) ; ظاهره الحمل على : أنه وجده حقيقة ، كما جاء في الحديث الآخر : (إن ريح الجنة توجد على مسيرة خمسمائة عام) ، ويحتمل أن يكون قاله على معنى التمثيل ; أي : إن القتل دون أحد موجب لدخول الجنة ، ولإدراك ريحها ونعيمها .

وقوله : ( فقاتلهم حتى قتل ) ; ظاهره : أنه قاتلهم وحده . فيكون فيه دليل على جواز الاستقتال ، بل على ندبيته ; كما تقدم .

وقولها : ( فما عرفته إلا ببنانه ) ; أي : بأصابعه . ومنه قوله تعالى : على أن نسوي بنانه [القيامة: 4].

وقوله : فمنهم من قضى نحبه [الأحزاب: 23] ; أي : وفى بنذره . يقال : نحب ، ينحب إذا نذر ، ومنه قول الشاعر :


إذا نحبت كلب على الناس إنهم أحق بتاج الماجد المتكرم

وقيل : قضى أجله على ما عاهد عليه . قال ذو الرمة :


عشية فر الحارثيون بعدما     قضى نحبه في ملتقى الجيش هوبر

[ ص: 740 ] وقوله : ومنهم من ينتظر ; أي : الوفاء بما نذر الموت على ما عاهدوا.

وقوله : وما بدلوا تبديلا ; أي : استمروا على ما التزموا ، ولم يقع منهم نقض لما أبرموا .

وقوله: ( قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه ) ; هذا القائل هو : ثابت . والله تعالى أعلم ; ويعني به : أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يظنون : أنها نزلت فيمن ذكر . وقد قيل : نزلت في السبعين الذين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم ، وأبناءهم ، فوفوا بذلك ; قاله الكلبي . وقد قيل غير ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية