المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3535 (51) باب

الغزو في البحر

[ 1379 ] عن أنس بن مالك: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة. (يشك أيهما قال) . قالت: فقلت : يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها. ثم وضع رأسه، فنام ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت : ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله. كما قال في الأول، قالت: فقلت : يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت من الأولين". فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمان معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.

وفي رواية : "يركبون ظهر هذا البحر الأخضر".

وفي أخرى : قال: فتزوجها عبادة بن الصامت بعد، فغزا في البحر فجعلها معه، فلما أن جاءت قربت لها بغلة ، فركبتها فصرعتها، فاندقت عنقها .


رواه أحمد ( 6 \ 361 )، والبخاري (2799)، ومسلم (1912)، وأبو داود (2491)، والنسائي ( 6 \ 40 - 41)، والترمذي (1645) وابن ماجه (2776).


(51) ومن باب: الغزو في البحر

قوله : ( إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدخل على أم حرام بنت ملحان ) ; أم حرام هذه هي أخت أم سليم أم أنس بن مالك ، وكان اسم أم حرام : الرميصاء . وقيل : الغميصاء ، وإنما الرميصاء أم سليم . وكذا ذكره البخاري .

و ( الرميصاء ) : من [ ص: 752 ] الرمص ، وهو القذى الذي يجتمع في مآقي العين وأهدابها .

و (الغمص) : استرخاء فيها وانكسار ، وهما اسمان لهما ، ويجوز أن يكون ذلك صفتين ، ولعل الغمص هو الذي كان غالبا على نساء الأنصار ، وهو الذي عنى به النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال لجابر : (فإن في عيون الأنصار شيئا) .

ودخول النبي -صلى الله عليه وسلم- على أم حرام ; لأنها كانت إحدى خالاته من الرضاعة ، كما قال ابن وهب . وقال غيره : بل كانت خالة لأبيه ، أو لجده ; لأن أم عبد المطلب من بني النجار .

وقوله : ( وكانت تحت عبادة بن الصامت ) ; ظاهره : أن أم حرام كانت زوجا لعبادة في الوقت الذي دخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ورأى تلك الرؤيا ، وليس الأمر كذلك ، بل تزوجها عبادة بعد ذلك بمدة ، كما قاله في الرواية الأخرى : فتزوجها عبادة بعد ، فغزا في البحر . فهذا يدل على تعقيب تزوجها بغزوهم ، وكان ذلك الغزو في زمان معاوية ، إما وهو أمير الجيش ، أو أمير المؤمنين ، على ما في ذلك من الخلاف .

وفي قوله : ( أطعمته ) ; دليل على جواز تصرف المرأة في إطعام الضيف من طعام زوجها ; لأن الأصل في أطعمة الدار إنما هي مال الزوج.

وفيه دليل على خلوة الرجل بذات محرم ، والتبسط معها ، والقرب منها ، لا سيما على رواية من [ ص: 753 ] روى : أنه -صلى الله عليه وسلم- وضع رأسه على فخذها. ويمكن أن يقال : إنه - صلى الله عليه وسلم- كان لا يستتر منه النساء ; لأنه كان معصوما بخلاف غيره .

وضحكه -صلى الله عليه وسلم- حين استيقظ إنما كان فرحا مما اطلع عليه من أحوال من يكون كذلك حاله من أمته بعده .

و ( ثبج البحر ) : ظهره ، كما قال في الرواية الأخرى . وأصل الثبج : ما يلي الكتفين .

وقوله : ( ملوكا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة ) ; هو شك من بعض الرواة ، وقد ورد في طريق أخرى : (كالملوك على الأسرة) ، بغير شك ، ويحتمل أن يكون خبرا عن حالهم في غزوهم . ويحتمل أن يكون خبرا عن حالهم في الجنة ، كما قال تعالى في صفة أهل الجنة : على سرر مصفوفة [الطور: 20] و على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين [الواقعة: 15 - 16]

وفيه دليل على ركوب البحر في الغزو . ويلحق به ما في معناه من الحج وغيره ; وهو مذهب جمهور الصحابة والعلماء ، غير أنه قد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه منع ركوبه مطلقا . وقيل : إنما منعاه للتجارة ، وطلب الدنيا ، لا للطاعات. وكره مالك ركوبه للنساء مطلقا ، لما يخاف عليهن من أن يطلع منهن على عورة ، أو يطلعن على عورات المتصرفين .

قال الأصحاب : هذا فيما صغر من السفن ، فأما ما كبر منهن ، بحيث يستترن بأماكن يختصصن بها ، فلا بأس .

وقولها في الثانية : ( ادع الله أن يجعلني منهم ) ; كأنها ظنت أن المعروضين [ ص: 754 ] عليه ثانيا مساوون للأولين في الرتبة ، فسألت رتبتهم ليتضاعف لها الأجر ، ولم تشك في إجابة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لها في المرة الأولى.

وقوله : ( أنت من الأولين ) ; أي : من الزمرة التي رآها أولا . وهذا يدل : على أن المرئيين ثانيا ليسوا الأولين ، وكانت الطائفة الأولى غزاة أصحابه في البحر .

والثانية : غزاة التابعين فيه . والله تعالى أعلم .

وقوله : ( فركبت البحر في زمن معاوية ) ; ظاهره : في زمان خلافة معاوية . وقال به بعض أهل التاريخ . والأشهر من أقوالهم : إن ذلك إنما كان في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وفيها كان معاوية قد غزا قبرص سنة ثمان وعشرين ، ومعه زوجته فاختة بنت قرظة من بني عبد مناف ، قاله خليفة بن خياط وغيره . وفيها ركبت أم حرام البحر مع زوجها إلى قبرص ، وبها توفيت حين صرعتها دابتها ، ودفنت بها .

وفيه دليل : على صحة نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وعلى صدقه ، فإنه قد وقع ما أخبر عنه من الغيب على نحو ما أخبر عنه .

[ ص: 755 ] وفيه دليل : على أن من مات في طريق الجهاد من غير مشاهدته ومباشرته ; له من الأجر والرتبة مثل ما للمباشر. كما قدمناه.

التالي السابق


الخدمات العلمية