المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
12 [ ص: 157 ] (2) باب

وجوب التزام شرائع الإسلام

[ 9 ] عن طلحة بن عبيد الله ، قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ، ثائر الرأس ، يسمع دوي صوته ، ولا يفقه ما يقول ، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو يسأل عن الإسلام ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل علي غيرهن ؟ فقال : لا ، إلا أن تطوع ، وصيام شهر رمضان ، فقال : هل علي غيره ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع ، وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة ، فقال : هل علي غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع ، قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والله ، لا أزيد على هذا ، ولا أنقص منه!! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفلح إن صدق .

وفي رواية : أفلح وأبيه إن صدق ، أو : دخل الجنة وأبيه إن صدق .

رواه البخاري ( 2678 ) ، ومسلم ( 11 ) ، وأبو داود ( 391 ) ، والنسائي ( 1 \ 227 ) ، و ( 8 \ 118 ) .


(2) ومن باب وجوب التزام شرائع الإسلام

الشرائع : جمع شريعة ، وهي في أصل اللغة : مشرعة الماء ، وهي مورد الشارعة ، فسميت شرائع الإسلام بذلك ; لأنها الأحكام التي لا بد للمكلفين من الورود عليها والعمل بها .

و ( قوله : " جاء رجل من أهل نجد ثائر الرأس " ) قيل : إن هذا الرجل هو ضمام بن ثعلبة الذي سماه البخاري في حديث أنس المذكور بعد هذا ، وإن الحديثين حديث واحد ، وهذا فيه بعد ; لاختلاف مساقهما ، وتباين الأسئلة فيهما ، ولزيادة الحج في حديث أنس ، ويبعد الجمع بينهما ; فالأولى أن يقال : هما حديثان مختلفان ، وكذلك القول في كل ما يرد من الأحاديث التي فيها الأسئلة المختلفة ; كحديث أبي أيوب ، وجابر ، وغيرهما مما يذكر بعد هذا . وقد رام بعض العلماء الجمع بينها ، وزعم أنها كلها حديث واحد ، فادعى فرطا ، وتكلف شططا ، من غير ضرورة نقلية ، ولا عقلية .

والنجد : المرتفع من الأرض ، والغور : المنخفض منها ، وهما بحكم العرف جهتان مخصوصتان .

وثائر الرأس : منتفش الشعر مرتفعه ، من قولهم : ثار الشيء : إذا ارتفع ، ومنه : ثارت الفتنة ، وهذه صفة أهل البادية غالبا .

[ ص: 158 ] و ( قوله : " نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول ") رويناه : يسمع ، ويفقه بالياء اثنتين من تحتها مبنيا لما لم يسم فاعله ، وبالنون فيهما للفاعل ، وكلاهما واضح الصحة ، وإنما لم يفهموا ما يقول ; لأنه نادى من بعد ، فلما دنا فهموه ; كما قال : حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

و ( قوله : " فإذا هو يسأل عن الإسلام ") " إذا " هذه هي المفاجئة التي تقدم ذكرها .

وهذا السائل إنما سأل عن شرائع الإسلام ، لا عن حقيقة الإسلام ; إذ لو كان ذلك ، لأجابه بما أجاب به جبريل - عليه السلام - في حديثه ، ولما رواه البخاري في هذا الحديث ; فإنه قال : فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام ، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم عنه أنه إنما سأل عما تعين فعله من شرائع الإسلام الفعلية لا القلبية ; ولذلك لم يذكر له : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وكذلك لم يذكر له الحج ; لأنه لم يكن واجبا عليه ; لأنه غير مستطيع ، أو لأن الحج على التراخي ، أو لأنه كان قبل فرض الحج ، والله أعلم ، وسيأتي ذكر الاختلاف في وقت فرض الحج .

و ( قوله : " خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل علي غيرهن ؟ فقال : لا يدل هذا على أن الوتر ليس بلازم ولا واجب ; وهو مذهب الجمهور ، وخالفهم [ ص: 159 ] أبو حنيفة ، فقال : إنه واجب ، ولا يسميه فرضا ; لأن الفرض عنده ما كان مقطوعا بلزومه ; كالصلوات الخمس .

و ( قوله : " هل علي غيرهن ؟ فقال : لا ، إلا أن تطوع ") ظاهر في أن معنى هذا الكلام : هل يجب علي من تطوع الصلوات شيء غير هذه الخمس ؟ فأجابه : بأنه لا يجب عليه شيء ، إلا أن تطوع ، فيجب عليك .

وهذا ظاهر ; لأن أصل الاستثناء من الجنس ، والاستثناء من غير الجنس مختلف فيه ، ثم هو مجاز عند القائل به . فإذا حملناه على الاستثناء المتصل ، لزم منه أن يكون التطوع واجبا ، ولا قائل به ; لاستحالته وتناقضه ، فلم يبق إلا ما ذهب إليه مالك ، وهو أن التطوع يصير واجبا بنفس الشروع فيه ، كما يصير واجبا بالنذر ; فالشروع فيه التزام له ; وحينئذ : يكون معنى قوله : " أن تطوع " : أن تشرع فيه وتبتدئه ، ومن ادعى أنه استثناء من غير الجنس ، طولب بتصحيح ما ادعاه ، وتمسك مانعه بالأصل الذي قررناه .

و ( قوله : " فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص " ) قيل معناه : لا أغير الفروض المذكورة بزيادة فيها ولا نقصان منها . ولا يصح أن يقال : إن معناه : لا أفعل شيئا زائدا على هذه الفرائض المذكورة من السنن ، ولا من فروض أخر إن فرضت ، فإن ذلك لا يجوز أن يقوله ولا يعتقده ; لأنه منكر ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على مثله .

[ ص: 160 ] و ( قوله : " أفلح وأبيه إن صدق " ) أي : فاز بمطلوبه ; قال الهروي : العرب تقول لكل من أصاب خيرا : مفلح ، قال ابن دريد : أفلح الرجل وأنجح : إذا أدرك مطلوبه . وأصل الفلاح الشق والقطع ; قال الشاعر :


. . . . . . . . . . . إن الحديد بالحديد يفلح

أي : يشق ; فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه . وقد استعمل الفلاح في البقاء . كما قال :


لو كان حي مدرك الفلاح     أدركها ملاعب الرماح

وقال آخر :


نحل بلادا كلها حل قبلنا     ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير

و (قوله : " وأبيه ") الرواية الصحيحة التي لا يعرف غيرها هكذا ، بصيغة القسم بالأب . وقال بعضهم : إنما هي : " والله " وصحفت بأن قصرت اللامان ; فالتبست بأبيه ; وهذا لا يلتفت إليه ; لأنه تقدير يخرم الثقة برواية الثقات الأثبات .

وإنما صار هذا القائل إلى هذا الاحتمال ; لما عارضه عنده من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بالآباء ; حيث قال : " لا تحلفوا بآبائكم ; من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " . وينفصل عن هذا من وجهين :

أحدهما : أن يقال : إن هذا كان قبل النهي عن ذلك .

والثاني : أن يكون ذلك جرى على اللسان بحكم السبق من غير قصد [ ص: 161 ] للحلف به ، كما جرى منه : تربت يمينك ، وعقرى حلقى ، وهذه عادة عربية بشرية لا مؤاخذة عليها ، ولا ذم يتعلق بها .

وقد جاء في هذا الحديث : الصدق في الخبر المستقبل ، وهو رد على ابن قتيبة إذ قال : الصدق إنما يدخل على الماضي ، والخلف في المستقبل ، ويرد عليه أيضا قوله تعالى : ذلك وعد غير مكذوب [ هود : 65 ] .

و (قوله : " أفلح وأبيه إن صدق " أو : " دخل الجنة وأبيه إن صدق ") هذا شك من بعض الرواة في هذا الطريق ، وقد جاء طريق آخر بالجزم على أحدهما ; كما تقدم . ثم معنى اللفظين واحد ، فلا يضر الشك ، وإنما ذكره الراوي متحريا .

التالي السابق


الخدمات العلمية