المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
231 (53) باب

كيف كان ابتداء الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهاؤه

[ 126 ] عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ; أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي : الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 1 - 5 ] . فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال : زملوني ، زملوني . فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، ثم قال لخديجة : أي خديجة ! ما لي ؟ وأخبرها الخبر ، فقال : لقد خشيت على نفسي ، فقالت له خديجة : كلا ! أبشر ، فوالله ! لا يخزيك الله أبدا . والله ! إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي - ، فقالت له خديجة : أي عم ! اسمع من ابن أخيك . قال ورقة بن نوفل : يا ابن أخي! ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رآه ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أومخرجي هم ؟ قال ورقة : نعم ! لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا .

وفي رواية : فوالله ! لا يحزنك الله أبدا.

رواه أحمد ( 6 \ 153 و 232 ) ، والبخاري ( 3 ) ، ومسلم ( 160 ) ، والترمذي ( 3636 ) .


[ ص: 374 ] (53) ومن باب كيف كان ابتداء الوحي وانتهاؤه

الوحي : إلقاء الشيء في سرعة ، ومنه : الوحا الوحا . ويقال على الإلهام ، ومنه قوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى [ القصص : 7 ] ; أي : ألهمناها ، وعلى التسخير ، ومنه قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل [ النحل : 68 ] ; أي : سخرها . وهو في عرف الشريعة : إعلام الله تعالى لأنبيائه بما شاء من أحكامه أو أخباره .

و " فلق الصبح " وفرقه : ضياؤه ; ومعناه : أنها جاءت واضحة بينة ، وهذا له - صلى الله عليه وسلم - مبدأ من مبادئ الوحي ومقدمة من مقدماته .

وقد أوحى الله تعالى إلى إبراهيم في النوم حيث قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك [ الصافات : 102 ] والأنبياء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم " . وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أول أمره يرى ضوءا ويسمع صوتا ، ويسلم عليه الحجر والشجر وتناديه بالنبوة ، وهذه أمور ابتدئ بها تدريجيا لما أراد الله به من الكرامة والنبوة ، واستلطافا له ; لئلا يفجأه صريح الوحي ، ويبغته الملك ، فلا تحتمل ذلك قوته البشرية .

[ ص: 375 ] و " حراء " بالمد : جبل بينه وبين مكة قدر ثلاثة أميال عن يسارك إذا ذهبت إلى منى . ويجوز فيه التذكير فيصرف على إرادة الموضع ، والتأنيث على إرادة البقعة . وضبطه الأصيلي : " حرا " بفتح الحاء والقصر . وقال الخطابي : أصحاب الحديث يخطئون فيه في ثلاثة مواضع ، يفتحون الحاء وهي مكسورة ، ويكسرون الراء وهي مفتوحة ، ويقصرون الألف وهي ممدودة .

واختلف في عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه ، هل كانت لأنه كان متعبدا بشريعة من قبله ؟ أم كانت لما جعل الله في نفسه وشرح به صدره من نور المعرفة ؟ ومن بغضه لما كان عليه قومه من عبادة الأوثان وسوء السيرة وقبح الأفعال ، فكان يفر منهم بغضا ويخلو بمعروفه أنسا ؟

ثم الذين قالوا : إنه كان متعبدا بشريعة ، فمنهم من نسبه إلى إبراهيم ، ومنهم من نسبه إلى موسى ، ومنهم من نسبه إلى عيسى . وكل هذه أقوال متعارضة لا دليل قاطع على صحة شيء منها . والأصح القول الأول ; لأنه لو كان متعبدا بشيء من تلك الشرائع ; لعلم انتماؤه لتلك الشريعة ، ومحافظته على أحكامها وأصولها وفروعها ، ولو علم شيء من ذلك ، لنقل ; إذ العادة تقتضي ذلك ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - ممن تتوفر الدواعي على نقل أحواله وتتبع أموره ، ولما لم يكن شيء من ذلك ، علم صحة القول الأول .

و (قوله : " حتى فجئه الحق ") أي : أتاه الوحي بغتة ، يقال : فجئ بكسر الجيم يفجأ ، وفجأ يفجأ بفتحها أيضا .

و (قوله : " ما أنا بقارئ ") " ما " نافية ، واسمها " أنا " ، وخبرها [ ص: 376 ] " بقارئ " ، والباء زائدة لمجرد النفي والتأكيد . وقال بعضهم : إنها هنا للاستفهام ، وهو خطأ ; لأن هذه الباء لا تزاد على الاستفهام ، وإنما تصلح للاستفهام رواية من رواها : " ما أقرأ " ، وتصلح أيضا للنفي .

و (قوله : " فغطني ") أي : غمني وعصرني ، ورواه بعضهم : فغتني ، وهما بمعنى واحد . وفي العين : غطه في الماء غرقه وغمسه ، ويقال : غته وغطه وخنقه بمعنى واحد .

و (قوله : " حتى بلغ مني الجهد ") أي : غاية المشقة ، بفتح الجيم . و " الجهد " - بالضم - : الطاقة ، قاله القتبي . وقال الشعبي : الجهد في القوت والجهد في العمل . وقيل هما بمعنى واحد ، قاله البصريون .

وهذا الغط من جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - تفزيع له وإيقاظ ، حتى يقبل بكليته ما يلقى إليه ، وتكراره ثلاثا مبالغة في هذا المعنى . وقال الخطابي : كان ذلك ليبلو صبره ويحسن أدبه فيرتاض لتحمل ما كلفه من أعباء الرسالة . وهذا الحديث نص في أول ما نزل من القرآن ، وهو أولى من حديث جابر إذ قال : إن أول ما أنزل من القرآن : يا أيها المدثر [ المدثر : 1 ] وسياق حديث جابر لا ينص على ذلك ، بل سكت عما ذكرته عائشة من نزول : اقرأ [ العلق : 1 ] في حراء ، وذكر أنه رجع إلى خديجة [ ص: 377 ] فدثروه ، فأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر وعائشة أخبرت بأول ما نزل عليه في حراء ، فكان قول عائشة أولى ، والله تعالى أعلم .

و (قوله : " ترجف بوادره ") ترعد وتضطرب . والبوادر من الإنسان : اللحمة التي بين المنكب والعنق ، قاله أبو عبيد في " الغريب " . وقد روي في " الأم " : " يرجف فؤاده " ، أي : قلبه ، وهذا هو سبب طلبه أن يدثر ويزمل ; أي : يغطى ويلف ; لشدة ما لحقه من هول الأمر وشدة الضغط . والتزمل والتدثر واحد ، ويقال لكل ما يلقى على الثوب الذي يلي الجسد دثار . وأصل المزمل والمدثر : المتزمل والمتدثر ، أدغمت التاء فيما بعدها ، وقد جاء في أثر أنهما من أسمائه - عليه الصلاة والسلام - .

و (قوله : " لقد خشيت على نفسي ") اختلف في سبب هذه الخشية ، وفي زمانها ، فقيل : كانت عند رؤية التباشير وسمع الصوت قبل لقاء الملك ، وعند هذا يجوز أن يكون شك في حاله ولم يتحقق مآله ، وأما بعد مشافهة الملك وسماعه منه ما أخبره به وما قرأ عليه ، فلا يتصور في حقه شك في رسالته بوجه من [ ص: 378 ] الوجوه . وإن كانت الخشية حصلت منه في هذا الحال ، فيحتمل أن كانت من ضعفه عن القيام بأعباء النبوة والرسالة ، وأنه لا يقدر عليها . ويحتمل أن يكون خوفه من مباعدة قومه له ونفارهم عنه ، فيكذبونه ويؤذونه ويقتلونه ، وهذا في أول أمره قبل أن يعلم بمآل حاله ، وأن الله يعصمه من الناس ، وقول خديجة يشعر بهذا ، والله تعالى أعلم .

و (قولها : " لا يخزيك الله أبدا ") قاله معمر بالحاء المهملة والنون ، وقال يونس وعقيل بالخاء المعجمة وبالياء المنقوطة باثنتين من أسفل ، ومعناه : لا يفضحك ولا يهينك .

و (قولها : " وتحمل الكل ") قال ابن النحاس : الكل الثقل ، من كل شيء في المؤنة والجسم . والكل أيضا اليتيم والمسافر ، وهو الذي أصابه الكلال وهو الإعياء .

و (قولها : " وتكسب المعدوم ") رويته بفتح التاء وضمها ، قال ابن النحاس : يقال : كسبت الرجل مالا ، وأكسبته مالا ، وأنشد :


فأكسبني مالا وأكسبته حمدا

وحكى أبو عبد الله بن القزاز أن كسب حرف نادر ، يقال : كسبت المال وكسبته غيري ، ولا يقال : أكسبت . وحكى الهروي : كسبت مالا وكسبته زيدا . وحكي عن ثعلب وابن الأعرابي : أكسبت زيدا مالا . ومعناه أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يكسب الناس ما لا يجدونه من معدومات الفوائد والفضائل ، وهذا [ ص: 379 ] أولى في وصفه من قول من قال : إن خديجة مدحته باكتساب المال الكثير الذي لا يجده غيره ولا يقدر عليه .

و ( قول ورقة : " هذا الناموس ") قال أبو عبيد في مصنفه : هو جبريل - عليه السلام - . قال الهروي : وسمي جبريل ناموسا ; لأن الله خصه بالوحي وعلم الغيب . وقال المطرز : قال ابن الأعرابي : لم يأت في الكلام فاعول ، لام الفعل سين إلا الناموس ، وهو صاحب سر الخير ، والجاسوس وهو صاحب سر الشر ، والجاروس الكثير الأكل ، والفاعوس الحية ، والبابوس الصبي الرضيع ، والراموس القبر ، والقاموس وسط البحر ، والقابوس الجميل الوجه ، والفاطوس دابة يتشاءم بها ، والفانوس النمام ، والجاموس ضرب من البقر . قال ابن دريد في الجمهرة : جاموس أعجمي وقد تكلمت به العرب ، وقال غيره : الحاسوس بالحاء غير معجمة من تحسسه بمعنى الجاسوس . وقال ابن دريد : الكابوس هو الذي يقع على الإنسان في نومه ، والناموس موضع الصائد ، وناموس الرجل صاحب سره ، وفي الحديث : " ناعوس البحر " ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .

و (قوله : " يا ليتني فيها جذعا ") فـ : " فيها " عائد على النبوة ، يريد مدتها ، تمنى [ ص: 380 ] نصرته في مدة نبوته . و " جذعا " كذا صحت الرواية فيه ، وعند ابن ماهان " جذع " مرفوعا على خبر " ليت " ، وكذا هو في البخاري . ونصبه من أحد ثلاثة أوجه :

أولها : أنه خبر " كان " مقدرة ; أي : يا ليتني أكون فيها جذعا ، وهذا على رأي الكوفيين كما قالوا في قوله تعالى : انتهوا خيرا لكم [ النساء : 171 ] ; أي يكن خيرا لكم ، ومذهب البصريين أن " خيرا " إنما انتصب بإضمار فعل دل عليه " انتهوا " ، والتقدير : انتهوا وافعلوا خيرا . وقال الفراء : هو نعت لمصدر محذوف ، تقديره : انتهوا انتهاء خيرا لكم .

وثانيها : أنه حال ، وخبر " ليت " في المجرور ، فيكون التقدير : ليتني كائن فيها ; أي : مدة النبوة في هذه الحال .

وثالثها : أن يكون " ليت " أعملت عمل " تمنيت " ، فنصبت اسمين ، كما قاله الكوفيون ، وأنشدوا عليه :


يا ليت أيام الصبا رواجعا

وهذا فيه نظر .

و (قوله : " أنصرك نصرا مؤزرا ") كذا رويناه بالزاي المفتوحة والراء المهملة ، [ ص: 381 ] وهو الصحيح ، ومعناه : قويا ، مأخوذ من الأزر وهو القوة ، قال الله تعالى : اشدد به أزري [ طه : 31 ] . وقوله في " الأم " : " فجثثت منه فرقا " ، يروى بالحاء غير معجمة وبالثاءين المثلثتين ، بمعنى : أسرعت خوفا منه . ويروى بالجيم المعجمة والثاءين ، وجئثت بالجيم وبالهمزة المكسورة مكان الثاء الأولى ، قال الهروي : جوث الرجل وجئث وجث ; أي : أفزع .

التالي السابق


الخدمات العلمية