المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
236 (54) باب

في شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صغره

واستخراج حظ الشيطان من قلبه

[ 128 ] عن أنس بن مالك ; أن رسول - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه ، فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة ، فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه ، ثم أعاده في مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني : ظئره - فقالوا : إن محمدا قد قتل ، فاستقبلوه وهو منتقع اللون . قال أنس : قد كنت أرى أثر المخيط في صدره .

رواه أحمد ( 3 \ 288 ) ، ومسلم ( 162 ) والنسائي ( 1 \ 224 - 225 ) .


[ ص: 382 ] (54) ومن باب شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صغره

(قوله : " فاستخرج منه علقة ") أي : قطعة دم ، والعلق الدم . وهذه العلقة المنتزعة عنه هي القابلة للوسواس والمحركة للشهوات ، فأزيل ذلك عنه ، وبذلك أعين على شيطانه حتى سلم منه . و " لأمه " أي : ضمه وجمعه ، و " ظئره " مرضعته ، و " منتقع اللون " متغيره ، يقال : انتقع لونه ، وابتقع وامتقع ; أي : تغير عن حاله . و " المخيط " ما يخاط به ، وهو الخيط والإبرة . وفي " الطست " لغات ; طست بفتح الطاء وكسرها ، وطس وطسة ، والجمع طساس وطسوس وطسات .

وهذا الحديث محمول على ظاهره وحقيقته ; إذ لا إحالة في متنه عقلا ، ولا يستبعد من حيث إن شق الصدر وإخراج القلب موجب للموت ، فإن ذلك أمر عادي ، وكانت جل أحواله - صلى الله عليه وسلم - خارقة للعادة ، إما معجزة ، وإما كرامة .

وهذا الشق هو خلاف الشق المذكور في حديث أبي ذر ومالك بن صعصعة ; بدليل اختلاف الزمانين والمكانين والحالين . أما الزمانان ، فالأول في صغره ، والثاني في كبره . [ ص: 383 ] وأما المكانان ، فالأول كان ببعض جهات مكة عند مرضعته ، والثاني عند البيت . وأما الحالان ، فالأول نزع من قلبه ما كان يضره وغسل ، وهو إشارة إلى عصمته ، والثاني غسل وملئ حكمة وإيمانا ، وهو إشارة إلى التهيؤ إلى مشاهدته ما شاء الله أن يشهده . ولا يلتفت إلى قول من قال : إن ذلك كان مرة واحدة في صغره ، وأخذ يغلط بعض الرواة الذين رووا أحد الخبرين ، فإن الغلط به أليق ، والوهم منه أقرب ، فإن رواة الحديثين أئمة مشاهير حفاظ . ولا إحالة في شيء مما ذكروه ، ولا معارضة بينهما ولا تناقض ، فصح ما قلناه . وبهذا قال جماعة من العلماء ، منهم القاضي المهلب بن أبي صفرة في " شرح مختصر صحيح البخاري " . والله تعالى أعلم .

و " الحكمة " أصلها ما يمنع الجهل والسفه ، ومنه حكمة البعير ، وكونها تملأ الطست استعارة تفهم أن المجعول في قلبه منها كثير شريف ، وإلا فليست العلوم أجساما حتى تملأ الطست . وقيل : إن القلب لما امتلأ حكمة بعد غسله بملء الطست من ماء زمزم ، قدرت الحكمة بما كانت عنده ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية