المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2543 (7) باب استئمار الثيب واستئذان البكر

والصغيرة يزوجها أبوها

[ 1471 ] عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن". قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت".

رواه البخاري (5136)، ومسلم (1419)، وأبو داود (2092)، والترمذي (1107)، والنسائي ( 6 \ 85 ).
[ ص: 114 ] (7) ومن باب استئمار الثيب

(قوله: " الأيم أحق بنفسها من وليها ") اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل: هي المرأة التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا. ومنه قوله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم [النور: 32]. تقول العرب: تأيمت المرأة: إذا أقامت لا تتزوج. ويقال: أيم بينة الأيمة، وقد آمت هي، وإمت أنا. قال الشاعر:


لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت



قال أبو عبيد : يقال: رجل أيم، وامرأة أيم. وأكثر ما يكون في النساء، وهو كالمستعار في الرجال.

قلت: والأيم في هذا الحديث هي: الثيب؛ بدليل الرواية المفسرة التي جعل [ ص: 115 ] فيها الثيب مكان الأيم، وبدليل: أنها قوبل بها البكر، وفصل بينهما، فأعطيت كل واحدة منهما حكمهما. وهذا واضح جدا.

وعليه: فلا مبالاة بما يقوله الكوفيون وزفر والشعبي في هذا الحديث؛ من أن المراد بالأيم: التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا. مستدلين به على أن الولي ليس بشرط في النكاح، بل للمرأة أن تنكح نفسها بغير ولي، بكرا كانت أو ثيبا إذا بلغت. وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: ( أحق ) على العقد؛ أي: أحق من وليها بالعقد عليها.

وهذا لا يصح؛ لما ذكرناه؛ ولأن مقصود الحديث بيان حكم الثيب والأبكار بالنسبة إلى سماع الإذن. فالثيب تعرب عن نفسها؛ أي: تنطق بنفسها مرادها، ولا يكتفى منها بالسكوت. والبكر يكتفى منها بالسكوت. فقوله: ( أحق بنفسها ) أي: تنطق بنفسها، ولا ينطق الولي عنها.

ثم نقول: بل هذا الحديث حجة للجمهور في اشتراط الولي؛ بدليل صحة ما وقعت فيه المفاضلة. وبيان ذلك: أن (أفعل من كذا) لا بد فيها من اشتراك في شيء مما وقع فيه التفاضل؛ فإنك إذا قلت: فلان أعلم من فلان. اقتضى ذلك اشتراكهما في أصل العلم، وانفرد أحدهما بمزية فيه؛ وكذلك قوله: (أحق) لا بد فيه أن يشاركها الولي في حقية ما، فإذا: له مدخل. ثم وجدنا في الشريعة مواضع كثيرة تدل على أن ذلك المدخل هو شرط في صحة النكاح.

فمنها قوله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم [النور: 32] ووجه الاستدلال بها: أنه خطاب للأولياء والسادة بالعقد على من يكون عليهم، وقد سوى بينهما بالخطاب. فكما أنه لا ينعقد النكاح على أمة الغير إلا بولاية سيدها، فكذلك لا ينعقد نكاح الحرة إلا بإذن وليها؛ ضرورة التسوية بين النوعين في حكم الخطاب. وهو واضح جدا.

[ ص: 116 ] ومنه قوله تعالى: فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف [البقرة: 232] والاستدلال بها من وجهين:

أحدهما: نهيه عن العضل. فلولا أن له مدخلا في الولاية لما صح له العضل.

وثانيهما: تعليق النهي عن العضل على تراضي الأزواج بالمعروف. فإن لم يتراضوا به فللولي العضل.

وسيأتي الكلام على هذه الآية عند ذكر حديث معقل بن يسار رضي الله عنه وفيه: لما أنزل الله الآية قال معقل : الآن أفعل. فزوجها إياه، مع أنها كانت مدخولا بها.

ومنها: الحديث الذي ذكره الدارقطني ، وصححه من حديث أبي هريرة مرفوعا: ( لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ). قال: هذا صحيح.

ومنها: ما خرجه أبو داود من حديث أبي موسى مرفوعا، قال: ( لا نكاح إلا بولي ).

وفيه: عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل - ثلاث مرات -، فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ).

وهذه الأحاديث مشهورة صحيحة عند تحقيق النظر فيها. ولا يلتفت إلى [ ص: 117 ] شيء مما ذكر فيها، كما ذكر من أن حديث عائشة تفرد به سليمان بن موسى ؛ فإنه إمام ثقة، وهو الأشدق، ولم يكن في أصحاب مكحول أحفظ منه. قال البزار : هو أحفظ من مكحول . وقال: هو أجل من ابن جريج . وكما قيل عن ابن جريج : أنه سأل ابن شهاب عن هذا الحديث فأنكره. وهذا لا يلتفت إليه؛ لأن هذه الحكاية أنكرت على ابن علية ، وهو الذي أوردها، ولو صحت، فلم ينكر ابن شهاب الحديث إنكار قطع بتكذيبه، بل إنكار ناس، والراوي عنه ثقة جازم في الرواية، فينبغي للزهري أن يقول: حدثني فلان عني بكذا، كما قد حكي عنه: أنه قال في مثل هذا: حدثني مالك عني. وكل هذا نسيان، وليس بدعا في الإنسان. وبسط الكلام فيه في كتب الخلاف.

وكل ما ذكر أيضا حجة على من قال: إن صحة عقد النكاح موقوفة على إجازة القاضي، وبه قال الأوزاعي ، ومحمد بن الحسن ، وأبو يوسف . وأنص ما في الرد على هؤلاء حديث معقل .

و (قوله: والبكر تستأمر ) هكذا وقع في حديث ابن عباس ، وفي حديث أبي هريرة : (الأيم تستأمر، والبكر تستأذن) وهو أتقن مساقا من حديث ابن عباس ؛ لأن (تستأمر) معناه: يستدعى أمرها. وهذا يظهر منه أن يصدر منها بالقول ما يسمى: أمرا. وهذا ممكن من الثيب؛ لأنها لا يلحقها من الخجل والانقباض ما يلحق البكر. فلا يكتفى منها إلا بنطق يدل على مرادها صريحا. وأما (تستأذن) فإنه يقتضي أن يظهر منها ما يدل على رضاها وإذنها بأي وجه كان، من سكوت، أو غيره، ولا تكلف النطق؛ ولذلك لما قال في حديث ابن عباس : (لا تنكح البكر حتى تستأذن) أشكل عليهم كيفية إذنها، فسألوا فأجيبوا: بأن إذنها [ ص: 118 ] أن تسكت. وهذا منه صلى الله عليه وسلم مراعاة لتمام صيانتها، ولإبقاء حالة الاستحياء، والانقباض عليها، بأن ينظر لها في ذلك المحل ما هو أصون لها، وأليق بها، فإنها لو تكلمت تصريحا لظن أن ذلك رغبة منها في الرجال. وهذا غير لائق بالبكر، بل هو منقص لها، ومزهد فيها، بخلاف الثيب.

وقد استحب علماؤنا أن تعرف البكر أن سكوتها محمول منها على الإذن، ليكون ذلك زيادة في تعريفها، وتنبيها لها على ما يخاف أن تجهله. وقد كان بعض من لقيناه من الفقهاء يقول لها بعد عرض الزوج والمهر عليها: إن كنت راضية فاصمتي، وإن كنت كارهة فتكلمي. وهو تنبيه حسن.

التالي السابق


الخدمات العلمية