المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2647 (27) باب

قبول قول القافة في الولد

[ 1522 ] عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد. وفي رواية: عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض. وفي رواية: وكان مجزز قائفا.

رواه أحمد ( 6 \ 82 )، والبخاري (6770)، ومسلم (1459) (38) و (39)، وأبو داود (2268)، والترمذي (2129)، والنسائي ( 6 \ 181 و 184).
(27) ومن باب قبول قول القافة في الولد

(قول عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه ) وفي رواية: (أسارير جبهته) وهي: الطرائق الدقيقة، والتكسر اليسير الذي يكون في الجبهة والوجه، والغضون أكثر من ذلك. وواحد الأسارير: أسرار، وواحدها: سر وسرر. فأسارير: جمع الجمع. ويجمع في [ ص: 199 ] القلة أيضا: أسرة.

وهذا عبارة عن انطلاق وجهه، وظهور السرور عليه، ويعبر عن خلاف ذلك بالمقطب؛ أي: المجمع. فكأن الحزن والغضب جمعه وقبضه.

و ( مجزز ) - بفتح الجيم، وكسر الزاي الأولى: هو المعروف عند الحفاظ. وكان ابن جريج يقول: مجزز - بفتح الزاي -. وقيل: عنه أيضا: محرز - بحاء مهملة ساكنة، وراء مكسورة -. والصواب الأول. فإنه روي أنه إنما سمي مجززا ؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرا جز ناصيته. وقيل: حلق لحيته. قاله الزبيري . وكان من بني مدلج ، وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد .

قال الإمام أبو عبد الله : كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة ، لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض من القطن. هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح .

قال القاضي : وقال غير أحمد : كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة. وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب ، أصابه سباء، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فتبناه، فكان يدعى: زيد بن محمد . حتى نزل قوله تعالى: ادعوهم لآبائهم [الأحزاب: 5] فقيل: زيد بن حارثة . وابن زيد أسامة ، وأمه أم أيمن: بركة ، وكانت تدعى: أم الظباء، مولاة عبد الله بن عبد المطلب ، وداية رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم أر لأحد أنها كانت سوداء، إلا ما روي عن ابن سيرين في تاريخ أحمد بن سعيد . فإن كان هذا؛ فلهذا خرج أسامة أسود، لكن لو كان هذا صحيحا لم ينكر الناس لونه؛ إذ لا ينكر أن يلد الإنسان أسود من سوداء. وقد نسبها الناس فقالوا: أم أيمن بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان . وقد ذكر مسلم في الجهاد عن ابن شهاب : أن أم أيمن كانت من الحبش وصيفة لعبد الله بن [ ص: 200 ] عبد المطلب : أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الواقدي .

وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم بركة أخرى حبشية، كانت تخدم أم حبيبة ، فلعله اختلط اسمها على ابن شهاب ، على أن أبا عمر قد قال في هذه: أظنها أم أيمن . أو لعل ابن شهاب نسبها إلى الحبشة ؛ لأنها من مهاجرة الحبشة ، والله تعالى أعلم.

وقلت: هذا أظهر، وتزوجها عبيد بن زيد من بني الحارث ، فولدت له أيمن ، وتزوجها بعده زيد بن حارثة بعد النبوة، فولدت له أسامة . شهدت أحدا، وكانت تداوي الجرحى. وشهدت خيبر، وتوفيت في أول خلافة عثمان بعشرين يوما.

روى عنها ابنها أنس ، وأنس بن مالك ، وطارق بن شهاب . قالت أم أيمن : بات رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، فقام من الليل، فبال في فخارة، فقمت وأنا عطشى، لم أشعر ما في الفخارة، فشربت ما فيها، فلما أصبحنا. قال: (يا أم أيمن ! أهريقي ما في الفخارة) قلت: والذي بعثك بالحق ! لقد شربت ما فيها، فضحك حتى بدت نواجذه، قال: (إنه لا تتجعن بطنك بعدها أبدا).

و ( القطيفة ): كساء غليظ.

وقد استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى قول القافة عند التنازع في الولد بسرور النبي صلى الله عليه وسلم بقول هذا القائف. وما كان صلى الله عليه وسلم بالذي يسر بالباطل، ولا يعجبه. ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة والثوري ، وإسحاق ، وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي صلى الله عليه وسلم الشبه في حديث اللعان على ما يأتي، وفي حديث سودة كما تقدم، وقد انفصل عن هذا بما تقدم آنفا، من أن إلغاء الشبه في تلك المواضع التي ذكروها، إنما كانت لمعارض أقوى منه، وهو معدوم هنا، فانفصلا، والله تعالى أعلم.

[ ص: 201 ] ثم اختلف الآخذون بأقوال القافة: هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء، أو يختص بأولاد الإماء؟ على قولين:

فالأول: قول الشافعي ، ومالك في رواية ابن وهب عنه. ومشهور مذهبه: قصره على ولد الأمة. وفرق بينهما: بأن الواطئ في الاستبراء يستند وطؤه لعقد صحيح فله شبهة الملك، فيصح إلحاق الولد به، إذا أتت به لأكثر من ستة أشهر من وطئه، وليس كذلك الوطء في العدة؛ إذ لا عقد إذ لا يصح. وعلى هذا فيلزم من نكح في العدة أن يحد، ولا يلحق به الولد؛ إذ لا شبهة له. وليس مشهور مذهبه. وعلى هذا فالأولى: ما رواه ابن وهب عنه، وقاله الشافعي .

ثم العجب أن هذا الحديث الذي هو الأصل في هذا الباب إنما وقع في الحرائر، فإن أسامة وأباه ابنا حرتين. فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم، وهو الباعث عليه؟ ! هذا ما لا يجوز عند الأصوليين.

وكذلك اختلف هؤلاء؛ هل يكتفى بقول واحد؛ لأنه خبر من القافة، أو لا بد من اثنين؛ لأنها شهادة؟ وبالأول قال ابن القاسم . وهو ظاهر الخبر، بل نصه. وبالثاني قال مالك ، والشافعي ، ويلزم عليه أن يراعى فيها شروط الشهادة؛ من العدالة وغيرها.

واختلفوا أيضا فيما إذا ألحقته القافة بمدعيين، هل يكون ابنا لهما ؟ وهو قول سحنون ، وأبي ثور . وقيل: يترك حتى يكبر، فيوالي من شاء منهما؛ وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقاله مالك والشافعي . وقال عبد الملك ، ومحمد بن مسلمة : يلحق بأكثرهما شبها.

[ ص: 202 ] واختلف نفاة القول بالقافة في حكم ما أشكل، وتنوزع فيه. فقال أبو حنيفة : يلحق الولد بهما، وكذلك بامرأتين. وقال محمد بن الحسن : يلحق بالآباء وإن كثروا، ولا يلحق إلا بأم واحدة. ونحوه قال أبو يوسف . وقال إسحاق : يقرع بينهم. وقاله الشافعي في القديم. ويستدل على هذا بما خرجه أبو داود من حديث علي رضي الله عنه وذلك أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، فأتت بولد فترافعوا إلى علي ، وكلهم يدعي الولد لنفسه، فأقرع علي بينهم، فألحقه بالذي طارت عليه القرعة. وكان علي باليمن ، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه . وسنده صحيح.

التالي السابق


الخدمات العلمية